بعد عقود من إحداث الاستشارة والتوجيه بالنظام التعليمي المغربي، وفي غياب التكوين الأكاديمي في العلوم الموازية لهذا التخصص كعلم نفس التوجيه وعلم نفس المهن وعلم اجتماع الشغل…لا تزال دار لقمان على حالها من تعدد وتباين بل وتضارب للرؤى والاجتهادات والتصورات والتمثلات حول مجال التوجيه لدى المستشارين والمفتشين المنتمين لهذا الإطار أولا ولدى الأطر الإدارية والتربوية الأخرى للوزارة ثانيا.

في ظل هذه الأجواء التي يغني فيها كل لليلاه، وللخروج من عشوائية وفوضى المفاهيم المتناقضة والمتصادمة، تميل الغالبية من أطر التوجيه إلى اعتماد الحلول السهلة أو ما يسمى في علم النفس النسقي بالحلول الفائقة Les ultra-solutions للتعامل مع مشاكل واكراهات الممارسة اليومية التي لا تنتهي.

وأكبر مثال على هذا هو استيراد مفاهيم وطرق وتقنيات الحقل التربوي لزرعها في ميدان التوجيه سواء على المستوى النظري أو التطبيقي كالحديث دائما عن حصص التوجيه نقلا عن الحصص الدراسية، والزمن التوجيهي بناء على الزمن المدرسي، والأطر المرجعية للتوجيه كالأطر المرجعية للتقويم والامتحانات، وساعات أنشطة التوجيه كساعات التدريس…وتفتيش التوجيه نقلا عن التفتيش التربوي.L’intoxication linguistique du discours pédagogique

لكن ما لا يعرفه المهووسون بعلوم التربية من أطر التوجيه، وكما يقول المثل الانجليزي، البارعون في استخدام المطرقة يرون كل شيء مسمارا، أن هذا المجال ليس وليد اليوم وأن الأبحاث والدراسات حول التوجيه لما يزيد عن قرن من الزمن وخصوصا بالولايات المتحدة الأمريكية، من الوفرة والامتداد المعرفي لدرجة يصعب معها حصره أو الإحاطة به في وقت وجيز، وبالتالي فهذا الاختزال الممل والمخل في نفس الآن ما هو إلا نوع من الجهل المقنع ومهزلة بجميع المقاييس.

لهذه الأسباب ولتقريب الصورة أكثر حول هذه الخدمة التربوية وإزالة بعض مما علق بها من شوائب وأفكار خاطئة في أذهان الكثيرين من موظفي الوزارة ومن الآباء والأمهات على حد سواء، سنطرح في هذه المقالة ما ليس من التوجيه انطلاقا من القاعدة المنطقية ″بضدها تدرك الأشياء.″

وسنركز على خمسة أبعاد رئيسية تتداخل في عملية التوجيه بقوة وتهدد بالإجهاز على ما بقي من الهوية المهنية لهذا الإطار.

1 – التوجيه ليس هو الإعلام!

والمقصود بالإعلام هنا هو الإعلام المدرسي والمهني الذي ينخرط فيه جل أطر التوجيه طيلة السنة الدراسية للتعريف بالشعب والمسالك الدراسية والآفاق المستقبلية حول الدراسات والمهن.

ولنتوقف قليلا أمام الملاحظة التالية :

بإمكان أي شخص أن يبحث عن المعلومات الدراسية والمهنية وخصوصا مع الثورة الهائلة في تكنولوجيا الاتصال والتواصل.

لكن المشكل الحقيقي هو في مسألة السلطة على المعلومة واكتساب مهارات جمع المعلومات وفرزها وتنظيمها وتحليلها…في أفق إعدادها لاتخاذ القرار الدراسي والمهني.

وهذا بالضبط هو الدور الاستراتيجي لإطار التوجيه : امتلاك السلطة على المعلومة في عصر تضخم المعلومات الذي يعطي الانطباع الوهمي بالمعرفة L’illusion du savoir, le faux-savoir…

2 – التوجيه ليس هو التدريس!

التوجيه حركة في اتجاه معين من المسار الدراسي والمهني بناء على قرار مدروس يتخذه التلميذ وأسرته وبالتالي فهو ليس مادة دراسية للحفظ والتحصيل ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتحول إطار التوجيه إلى أستاذ للتوجيه وإلا فهو العبث بعينه، لأنه وعوضا عن ″بناء المستقبل″ الدراسي والمهني للتلميذ عبر مجموعة من العمليات والمحطات، سيتم ببساطة ″قراءة المستقبل ″ الدراسي والمهني هكذا للتلميذ وأسرته كما هو الحال عند العرافين والمنجمين!

للأسف الشديد، فجل أطر التوجيه يرتلون صباحا ومساء على مسامع التلاميذ دعائم الإعلام في الفصول الدراسية على مدار السنة وكأنها من أوراد المهنة وهو ما ساهم إلى حد بعيد في هذا الخلط ما بين التوجيه والتدريس.

3 – التوجيه ليس هو الدعم النفسي أو التربوي أو الاجتماعي…

مهمة الإطار في التوجيه هي تقديم الاستشارة حول مشكل معرفي أو نفسي أو اجتماعي لتسهيل الاختيار واتخاذ القرار الصائب من طرف التلميذ وأسرته، مما يعني ضرورة امتلاك مهارات تسيير الاستشارة

L’entretien de conseil لدى أطر التوجيه والتوفر على حقيبة الروائز المعرفية والنفسية والمهنية…كوسيلة أساسية للاستشارة، وبدلا من الأطر المرجعية للتوجيه فالذي يحتاجه المستشار هو ميثاق لمهنة الاستشارة والتوجيه كما هو الشأن بالنسبة للمحاماة والطب…ناهيك عن التكوين المستمر بتنسيق مثلا مع وزارة الصحة في تشخيص الاضطرابات النفسية والعقلية لدى التلاميذ أو مع وزارة الأسرة والتضامن حول المشاكل الاجتماعية للأسر وكيفية التعرف عليها والتعامل معها…

4 – التوجيه ليس هو الشعبة الدراسية أو المهنة المستقبلية…

الشعب الدراسية والمهن كلها متساوية ولا فرق ما بين الشعب والمهن الفكرية ″النبيلة″ والشعب والمهن اليدوية ″غير النبيلة″. المسألة كلها تتلخص في الاستعداد الجسمي والنفسي والمعرفي…لاختيار شعبة ما أو مهنة ما.

لكن وللأسف الشديد مرة أخرى فأطر التوجيه هم من يذكون لهيب السباق المحموم نحو التفوق والمكانة الاجتماعية ″المرموقة″ لدى التلاميذ وأسرهم بدلا من تحسيسهم بأهمية الهوية المهنية في الحياة.

5 – التوجيه ليس هو المشروع الشخصي…

التوجيه التربوي عملية تستند على معطيات الحاضر وليس على المستقبل عكس المشروع الشخصي القادم من اديولوجيا التدبير والتي تبحث عن كل شيء بلا شيء في هروب دائم إلى الأمام وتحميل لمسؤولية الدولة على الفرد بسبب الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

أسئلة أخرى حول المشروع الشخصي الذي يتغنى به جل أطر التوجيه :

  • ما مدى مشروعية المشروع الشخصي في ظل جبرية النظام التعليمي ومخرجاته المحددة سلفا بغض النظر عن تطلعات التلميذ وأسرته؟
  • أين هي مهارات المشروع الشخصي؟
  • أين هو التلميذ الراشد العاقل العقلاني المستقل المسؤول…؟

هذه الصفات لا توجد حتى لدى الكبار فكيف بالصغار؟

ختاما لابد من الملاحظات التالية :

  1.  لا يجب الخلط بين الوسيلة والغاية في التوجيه.
  2. التوجيه هو توجيه مدى الحياة.
  3. التوجيه هو امتلاك الأدوات والمهارات الأساسية للاختيار الحر ولاتخاذ القرار الصائب في الحياة.
  4. الحياة أكبر وأعمق بكثير من عملية التوجيه وبالتالي فلا معنى لاختزال الحياة في الدراسة أو المهنة لأن هذا الخطأ هو السبب الرئيسي في المعاناة النفسية للكثيرين.
  5. هذه المبادئ الأربعة هي ما يسمى بالتوجيه الفلسفي الرائد حاليا في الدول الاسكندنافية.

سؤال أخير لأطر التوجيه : ألم يحن بعد الأوان لممارسة الاستشارة والتوجيه كما هي لا كما نتخيلها نحن؟