إن تمثل الذات، ككل التمثلات، هو بناء ذهني يسعى إلى تشكيل صورة عن الذات عبر أنشطة التقييم الذاتي والمقارنات الاجتماعية والوعي الذي يتولد لدى الفرد عبر تجاربه، لذا فهو يتعلق بما يسمى ب”متامعرفي” métacognition . إنه تمثل الفرد لذاته représentation de soi أو “إدراك الذات” conception de soi أو صورة الفرد لذاته image de soi، التي تعني تلك المعارف والإدراكات التي لدى الفرد عن نفسه حول قدراته وسلوكاته والثقة التي يمنحها لها. ويعتبر تمثل الفرد لذاته من العوامل التي لها علاقة بأدائه (في المدرسة وفي الحياة…)، حيث يمكن أن يكون مصدر قوة ونجاح، كما يمكن أن يكون مصدر فشل وإحباط. كيف يتشكل تمثل الطفل لذاته؟ وكيف يمكن جعله مصدر قوة لا إحباط؟

يتشكل تمثل الطفل لذاته أولا من خلال احتكاكه بالواقع وبالآخرين، ومن خلال تجريب قدراته ومؤهلاته سيما عند محاولته استيعاب المعرفة المدرسية. ذلك أن الطفل يجرب قدراته عندما يوضع في وضعية حل مشكلات أو التعبير عن رأي أو ممارسة حكم نقدي، أو في وضعية اختيار أو فعل، أو كلما توفرت له فرص إبراز خبرته وتعلماته. وإن توالي النجاح أو الفشل في ذلك يؤسس لتشكيل صورة عن الذات تصبح فيما بعد عاملا مؤثرا على أدائه.
ويتشكل ثانيا (تمثل الطفل لذاته) من خلال نظراتنا له وانتظاراتنا واهتماماتنا أو لامبالاتنا. ذلك أن أحكامنا وقراءاتنا لأدائه وتصرفاته وسلوكه تؤثر على تشكيل نظرة الطفل لذاته. ويكون الوقع سلبيا عندما تكون هذه الأحكام أيضا سلبية، إذ تترسخ لديه صورة سلبية عن ذاته من خلال نظراتنا ونظرات الآخرين له (الأساتذة، الآباء، الأقران …). ونعني بهذه النظرات تلك المواقف التي يعلنون عنها اتجاه الطفل الذي يفشل في أدائه سيما على مستوى الأداء الدراسي، أي خطاباتهم وسلوكاتهم وانفعالاتهم وانتظاراتهم التي غالبا ما تؤكد هذا الفشل وتحمله وحده مسؤولية ذلك.
عندما لا يتم تقديم الدعم الملائم للطفل لتجاوز صعوباته، وعندما تتوالى إخفاقاته وتتوالى معها هذه الأحكام والمواقف والقراءة السلبية لتعثره، ستترسخ لديه صورة عن ذاته تؤكد لديه الإحساس بالضعف والفشل وبعدم القدرة. وسوف لا يقوى على السباحة ضد التيار، بل سيستسلم إلى هذا الأمر، ويسجن نفسه في ماضي سلبي يصبح معه من الصعب الخروج من هذا النفق المظلم، باعتبار أن ماضيه يشرط حاضره ويمنعه من تصور مستقبله كما يريده.
ويتفاقم الأمر عندما يعترف الطفل ذاته بشرعية هذا القضاء، ويستبطن هذا الأمر، ويصبح يفسر كل الصعوبات بضعف ذاتي فقط، ويتبنى مواقف قدرية في مواجهة هذه الصعوبات. كل ذلك سيجعل الطفل يقيد طموحاته ويحد من تطلعاته ويقلص من مجال اختياراته. كيف يمكن إذن إعادة تنظيم وإغناء تمثل الطفل لذاته وتغيير مواقفه تجاه ذاته وتجاه المحيط من أجل تحريره من ثقل هذه الآثار السلبية؟
غالبا ما يواجه الأساتذة والآباء الفشل المدرسي بوصفات جاهزة كإدراج الطفل المتعثر في خانة الأطفال غير الأذكياء والميؤوس من معالجة وضعيتهم، حيث لا يعتبرون أن التعثر هو محطة نحو النجاح. هكذا يبدو أن الفشل المدرسي هو في جزء كبير منه فشل تربوي وبيداغوجي، حيث لا تتبنى المدرسة مواقف عارفة بهذا الإشكال ولا تقوم بمجهود بيداغوجي ملائم ينطلق من وضعية الطفل ومن الاعتقاد في إمكانية تصحيح وضعيته لكونها ليست ملازمة له. إن هذا الاعتقاد، خصوصا إذا تبناه الطفل نفسه، سيلعب دورا أساسيا في إعادة بناء تمثله لذاته يكون أكثر واقعية، وذلك بحثه على إعادة النظر في تعامله مع وضعيته من خلال الانخراط في إجراءات بنائية لتفسير صعوباته. إن التفسير السليم لأسباب فشله وتحديدها بشكل واضح سيمكن من إيجاد الحلول الملائمة لتجاوز هذه الصعوبات.
ولكي يتجاوز الطفل صعوباته ويبني صورة إيجابية عن ذاته لابد من البدء من إبراز مكامن قوته من خلال دعم تجاربه التي يحقق فيها نجاحات. وبذلك سيكتشف بنفسه ذكاءاته وقدراته ومكامن قوته ومكامن ضعفه أيضا. وسيواجه تلك الأحكام النمطية المحبطة، باعتماده نقدا ذاتيا بناء يجعله يواجه صعوباته الحقيقية والواقعية، ويكتشف مكامن قوته التي تمكنه من تحقيق النجاحات التي تقوي تمثله الواقعي عن نفسه.
إن مسألة التجاوز ينبغي أن تكون ذاتية يقودها الطفل نفسه تحت رعاية تربوية عارفة تنطلق من وضعية الطفل، ليس من منظور حتمي قدري، بل من منظور بنائي يعتقد في إمكانية تغيير وضعيته والدفع بها نحو الأحسن. هذه العلاقة ستساعد الطفل على الإدراك الحقيقي لمحدداته الذاتية من إمكانات وصعوبات مرحلية قابلة للتجاوز عبر الفعل والمحاولة والخطأ. وبذلك سيتمكن الطفل من بلورة صورة واضحة عن ذاته، صورة ديناميكية قابلة للبناء والتحيين الدائمين.
ومجمل القول, فإن مواجهة صعوبات التعلم، التي تؤثر على شخصية كثير من الأطفال، تقتضي اعتماد منظور تربوي يتجاوز عدة عوائق ابستيمولوجية حسب تعبير باشلار، منها أن المعرفة ليست معطى بل بناء وهي جواب عن سؤال (باشلار)، وأن المعرفة والخبرة لا تنقل بل تتأسس وتبنى (بياجي)، وأن الفشل ليس خطيئة، بل خطوة إيجابية ومعطى ينير الطريق نحو الأجوبة السليمة ونحو النجاح، وأن الأطفال ليسوا كتلا متشابهة بل كائنات سيكولوجية متباينة ومتفاعلة تقتضي بيداغوجية فارقية.

بقلم : المختار الشعالي