ينبغي أن تشكل الاستقلالية هدفا محوريا للتربية، حيث ينبغي أن تمنح الأسرة والمدرسة فرصا للطفل ليتمرن على التدبير الذاتي لأموره، سواء على مستوى إدراكه لذاته ولمحيطه المادي والاجتماعي والسيكولوجي أو على مستوى الأسلوب الذي يختاره لنفسه في التواصل والتفاوض والتكيف مع هذا المحيط.

لا يمكن أن يستقيم الحس بالاستقلالية دون الحس بالحرية والمسؤولية. ذلك أن ‹‹الحرية هي جوهر الإنسان›› (سارتر)، كونها تمكن من الوعي بالأحكام النمطية والمعيارية السائدة التي يروج لها الوسط، والوعي بالعوائق الإبستيمولوجية (باشلار) التي تحد من الإدراك الحقيقي للذات والمحيط الاجتماعي والثقافي، وتحد من قدرات الفرد على المبادرة والتجديد. وبالتالي فإن الحرية سترفع من إبداعية الفرد لتجاوز إكراه وسطه والقيود التي يمكن أن تحد من طموحاته. كما أن الحس بالمسؤولية سيمكنه من اكتشاف ما هو مطلوب منه من جهد واستثمار لموارده مما يدعم تفتح شخصيته وإنمائها وإطلاق طاقاته وإمكانياته.
يقود الحس بالاستقلالية إذن إلى ثقة أكثر بالذات، والرفع من فعالية قدرات الفرد، واستعداد أكثر لمواجهة مخاوفه، وقابلية لفهم العالم الذي يعيش فيه، دون تبنى بالضرورة المواقف والقيم السائدة ودون التقييد المفرط بالمعايير التي يفرضها المحيط . وبالتالي لا يكون الإنسان المستقل في حاجة زائدة إلى إقرار واستحسان ورضا الآخرين، كونه يستعمل موارده الذاتية، وتلك المتوفرة في المحيط، بشكل جيد في بناء معارفه وقيمه ومواقفه. لذا فإنه مؤهل أكثر للانخراط بحيوية في تحسين وتطوير الوضعيات التي يوجد عليها، حيث من المفترض أن يحقق نجاحا أكثر على المستوى الدراسي والمهني ويبدي تكيفا جيدا على المستوى الشخصي.
فوق ذلك, فإن الحس بالاستقلالية حاجة ذاتية، حيث أن الفرد في حاجة إلى التعبير عن أحاسيسه ووجهة نظره ورؤيته للأمور، وفي حاجة إلى قيادة مصيره بنفسه، وفي حاجة إلى امتلاك القدرة على التواصل وتقاسم ونقل بأصالة التجارب التي يعيشها في الحياة اليومية وإيصالها بأسلوبه الخاص إلى الآخرين في سياق عملية الانفتاح على الخارج. على هذا الأساس ظل الطفل منذ ولادته يحاول مقاومة الوصاية الزائدة التي يحاول الآباء فرضها عليه. إذ سعى مبكرا إلى محاولة انتزاع حقه في الاعتماد على نفسه عند تناول الطعام وعند محاولاته الأولى للوقوف على قدميه وعند المشي في الطريق، حيث يرفض بشدة القبض بيده. وقد تحمل الكثير من التأنيب والضرب والعقاب ليتمكن من ممارسة استقلاليته في تدبير أموره من خلال المحاولة والخطأ والإقدام والمجازفة الضرورية لأي تعلم، محفزا بالمتعة التي يجلبها من الإحساس بالقدرة على إنجاز ذلك، وبالطموح إلى تحقيق إنجازات أخرى بمفرده.
إن الحاجة إلى الاستقلالية ليست حاجة فردية فقط بل حاجة اجتماعية أيضا. ذلك أن المجتمع الذي يسعى إلى التطور والبقاء هو في حاجة إلى مساهمة أفراده باعتبارهم يمتلكون إمكانيات للفعل والتأثير. ويقتضي ذلك حرية واستقلالية أكثر لتحرير هذه الطاقات للنهوض بهذا الميكانيزم الاجتماعي الضخم. غير أن المفارقة التي يمكن ملاحظتها باستغراب، هي أنه رغم أن مجتمعنا يطمح إلى توسيع الإجماع على قيم ديموقراطية وتوسيع قطاعات الاقتصاد الحر، فإنه ما زال يرفض التربية على الاستقلالية على الأقل على مستوى الفعل والممارسة. ذلك أن الممارسة التربوية في مدارسنا يبدو أنها ما زالت بعيدة عن الاهتمام بهذا الجانب، رغم أن الحديث عن الاستقلالية في أدبياتنا التربوية قد ابتدأ منذ مدة. إذ أن البيداغوجية المعتمدة ما زالت تنهج، في غالب الأحيان، أساليب عتيقة تقوم على الامتثال والخضوع ورفض التعابير والأنشطة الذاتية، حيث تتمركز العملية التعليمية بكاملها على نقل معرفة مدرسية جاهزة بأسلوب تغلب عليه الخطابة والتلقين والترويض، حيت يرسخ التبعية لهيمنة أسلوب المدرس أو هيمنة البرنامج الذي يتقيد به الجميع. وعليه فإن قدرات التلميذ على الاستقلالية غير مطلوبة في المدرسة وحتى في المقاولة، كما لا يثمنها المحيط الاجتماعي والثقافي أيضا.
تنبني الاستقلالية على المنظور الإنساني للفرد/الإنسان، باعتباره مفكرا وفاعلا اجتماعيا وكائنا سيكولوجيا تواقا إلى الحرية، لذا وجب احترام طموحاته وأصالته وفردانيته وتاريخه الشخصي ومحدداته الذاتية. إن التربية على الاستقلالية سوف لا يكون لها أي مفعول ولا أي معنى إن لم تنطلق، وتهدف في نفس الوقت، إلى الوقوف والوعي بهذه المحددات الذاتية وخصوصيتها، كونها الأسس التي تبنى عليها هوية الفرد والقاعدة التي ينطلق منها للتفاعل والتفاوض والتموقع والفعل في المحيط بكل استقلالية. لذا من المفترض أن تروم التربية على الاستقلالية اكتشاف وتوضيح هذه المحددات الذاتية، عبر المعنى الذي يعطيه الفرد لتجاربه في احتكاكه بذاته ومحيطه والوعي الذي يتولد عن ذلك. ويرافق هذا الإجراء تمكينه من القدرة على التعبير الإبداعي لقيمه ومواقفه وقدراته، في أفق تحديد اختياراته ومصيره بكل استقلالية ومسؤولية. وبصيغة أدق إن الفرد في حاجة إلى بناء أفكار ومواقف متناغمة مع قيمه وحاجاته، أفكارا تتجسد في سيرورة وجوده في الاتجاه الذي يختاره لنفسه.
تقتضي التربية على الاستقلالية التأكيد على المواقف الإيجابية للفرد، التي تتعلق باختياره كيف يكون وكيف يتصرف ويتفاعل ويتموقع وكيف يصير. كل ذلك ينبغي أن يكون هدفا للتربية عوض التركيز على قيم تتعلق غالبا ب»الانضباط « والأخلاق المعيارية « التي يحددها المشرفون على هذا الضبط سواء في المدرسة أو خارجها. هذا من جهة أما من جهة أخرى فإنها تتعلق أيضا باختيار الأسلوب الذي يفسر به ما يدركه والذي يقتضي أن يمنح لإدراكاته معنى ودلالة متناغمة مع قيمه وحاجاته. يحتل إذن بناء مواقف إيجابية مكانة هامة في التربية على الاستقلالية لأن المواقف تشكل، إن صح القول، المكونات العاطفية للقدرات المعرفية التي من المفترض أن ينميها الفرد ويوضحها.
وخلاصة القول، لا يمكن أن تقوم التربية على الاستقلالية دون مساعدة من المحيط ومن المدرسة أساسا، حيث يتطلب من المدرسة أن تهيئ وضعيات وسياقات تسمح بتبني قيم تؤكد على المبادرة وعلى استثمار المحددات الذاتية، وتنمي لدى الطفل الفضول ألاكتشافي والفكر النقدي وتثمن أنشطته الذاتية، بما لها من دور محرك في بناء بنياته المعرفية والعاطفية والعلائقية التي ستمكن من إعداد إنسان منسجم مع ذاته ومفيد ونافع لها ولمجتمعه، عوض التأكيد المفرط على الطاعة والخضوع والتبعية والاتكالية التي تعد فردا سلبيا، يكون في حاجة دائمة للمساعدة والإسعاف والإنقاذ سواء في حياته الدراسية أو حياته الاجتماعية.

بقلم : المختار الشعالي