في ساحة بحي شعبي – وعلى الساعة العاشرة صباحا – تجمع أطفال للاحتفال بعيد العرش على ما يبدو. كانت أعمارهم تتراوح ما بين سبع وتسع سنوات. عندما قدمت إلى المكان كان الأطفال منشغلين ببناء خيمة… وقد جلب اهتمامي هذا النشاط التلقائي الحي، فتوقفت لمتابعته من مكان لا يثير أنظار الأطفال… هم أصلا منخرطون كليا في هذا الورش ولا يبالون بما يجري حولهم.

بعد متابعتي لهذا النشاط، تبين لي أن الأمر يتعلق ببناء خيمة وتحضير وجبة غداء احتفالا بعيد العرش. كانت هذه الأهداف قد جرى الاتفاق عليها سابقا فيما يبدو…أما الورش القائم الآن ليس سوى تنزيل وترجمة هذه الأهداف إلى الواقع . أثناء عملية الإنجاز هاته: كان الكل يتحرك.. والكل يفكر.. والكل يتخيل.. والكل يتفاوض.. والكل يتفاعل.. والكل يشتغل وينجز.. والكل يتابع مراحل البناء ويقيم ويقوم العمل ويصوب.. وعلى إثر هذا التقييم تراهم يركضون، عند الحاجة، تارة في اتجاه منازلهم وتارة أخرى في اتجاهات مختلفة، للبحث عن أدوات يتطلبها استكمال الورش (خشب، قصب، عمود، حبل، غطاء، فراش، خضر..).. إنه ورش جماعي للتعلم من خلال اللعب والمتعة عبر هذا النشاط التلقائي الحر القائم على التفاعل والتشارك لا على الإخضاع… ليس هناك تراتبية ولا سلطة ولا أوامر ولا إقصاء ولا تنافس ولا زجر ولا معايير ولا تصنيف ولا أحكام… الكل يسهم حسب الدور الذي يراه مناسبا لاهتماماته وقدراته ورؤيته للأمور.. إنه فعلا درس في بناء الذكاء والهوية..

ينبغي التذكير بأن النمو التلقائي للذكاء، حسب الإبستمولوجية التكوينية لبياجي، يمر من مرحلة الأفعال الحس- حركية الأولية إلى العمليات الحسية ثم العمليات الصورية (التجريد)… هؤلاء الأطفال هم في مرحلة إنماء بنيات العمليات الحسية المباشرة… ويقتضي بناء هذه البنيات وهذا الذكاء تفكيرا يعتمد على ما يقوم به الطفل من أعمال ملموسة.. ذلك لأنه ما زال يفكر من خلال الفعل والأداء ويكون إدراكه إدراكا مباشرا لا مجردا… غير أنه يتدرب في الوقت نفسه على التجريد ليتهيأ للمرحلة اللاحقة، مرحلة العمليات الصورية. وهكذا، فإن هذه الوضعية مناسبة لبناء البنيات الفكرية الملائمة لهذه المرحلة… وينبغي التأكيد على أن هذه البنيات لا تبنى من خلال التلقين والحشو الذي تعتمده مدارسنا…

في الواقع لا يقتصر تطور الطفل، عبر هذه الأنشطة التلقائية، على النمو المعرفي أي بناء ذكائه، بل يشمل إنماء شخصيته بكاملها وكل موارده الذاتية. إن إحدى الخاصيات الأساسية لنمو الكائن الحي هي وحدته وتناسقه Josef Nuttin (1980) . هكذا، فإن الطفل يتطور عبر هذا النشاط على المستوى الحركي والمعرفي والتحفيزي والعاطفي والاجتماعي والسيكولوجي.

إن البعد التربوي لهذا العمل الجماعي التلقائي للأطفال فيما بينهم، يكمن بالضبط في كونه يسمح لهؤلاء ببلورة قيم التوافق والتعايش والتفاوض وتقبل الآخر والتي تفرضه هذه الوضعية، وبلورة قواعد انضباط التي يتم اكتشاف الحاجة إليها من خلال الممارسة نفسها، بدل أن يتلقوها جاهزة قبل أن يفهموها.

إن الأنشطة الذاتية هي التي تجعل الطفل يبني بنفسه هذه الأدوات التي ستغيره من الداخل… وليس عبر الخطابة والنصيحة والإكراه..

لهذا، فنحن الجيل الذي كان يقضي الكثير من وقته في اللعب الجماعي في الحي، قد بنينا ذكاءاتنا وامتلكنا الكثير من القيم الاجتماعية من داخل هذا الفضاء وعبر هذا اللعب.. وليس عبر التربية النظامية… لذا كنا نستوعب في المدرسة بسهولة الرياضيات والمواد العلمية.. ولكن نجد صعوبات في استيعاب المواد التي تعتمد الحفظ والترديد التي تنصب على ذاكرة الفرد لا قدراته البنائية..

إن المدرسة الفنلندية (أفضل المدارس عالميا) تنطلق في مناهجها من مثل هذه الوضعية التي تطرقنا لها، حيث التحصيل يتحقق عبر اللعب والمتعة والحرية.. لكن تحت تأطير أستاذ له تكوين أكاديمي هو الأعلى يجعله ملم بموضوعه: “معرفة عميقة بالإنسان”… تنبغي الإشارة في الختم إلى أن كل المدارس الفنلندية حكومية ومتساوية في الجودة… هذا هو المعنى الحقيقي لمفهوم العدالة في الاستفادة من الإنفاق العمومي المخصص للتربية والتكوين… وهذا هو المعنى الواضح لمفهوم تكافؤ الفرص.

بقلم : المختار الشعالي