تجمع أغلب المقاربات النظرية الحديثة في مجال التربية أن أداء الأنظمة التربوية لوظائفها المجتمعية يقتضي ليس فقط السعي إلى اكساب الأفراد كفايات تؤهلهم للاندماج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الفاعل في مجتمعاتهم. ولكن الحرص أيضا على تسليحهم بقدرات و مهارات تجعلهم أكثر استقلالية في اختياراتهم المدرسية والتكوينية والمهنية، و مصاحبتهم المستمرة في بناء مشاريعهم الشخصية والحياتية.

على هذا الأساس، أكد العديد من منظري التربية على ضرورة استدماج المدرسة في كل مراحلها ومستوياتها لمفاهيم التربية على الاختيار ، واستحضارها في مجمل أنشطتها وممارساتها ومشاريعها التربوية بهدف مساعدة المتعلمين على تطوير كفايات تجعلهم قادرين على التكيف والتموقع مع متغيرات بيئتاتهم السوسيومهنية، وتدبير الانتقالات التي يشهدونها في حياتهم المدرسية والمهنية.

انسجاما مع هذا السياق، تبنت المنظومة التربوية المغربية مدخل التربية على الاختيار كأحد المداخل الأساسية لبناء المنهاج الدراسي المغربي، كما أن الرؤية الإستراتيجية للإصلاح 2015-2030 قد أولت أهمية خاصة لهذا المفهوم في العديد من رافعات التغيير. فعلى سبيل المثال، تشير الرافعة السادسة عشر المرتبطة بملائمة التعلمات والتكوينات مع حاجيات البلاد ومهن المستقبل والتمكين من الاندماج، أن على المنظومة التربوية العمل على تربية المتعلمين مند بداية التعليم المدرسي على تنويع الاهتمامات، وربط تعلماتهم بمختلف مجالات الحياة، لفهم جدوى الدراسة والتثقيف، ودورهما في انفتاحهم واقبالهم على المبادرة والمشاركة والعمل الجماعي، وكل ما يهيىء لحسن ولوج الحياة الاجتماعية والمهنية. كما أكدت المادة 83 من الرافعة الثالثة عشرة المتعلقة بالنمودج البيداغوجي؛ على ضرورة منح التوجيه التربوي أدوارا جديدة تمكنه من القيام بمهام الدعم البيداغوجي المستدام، بالاعتماد المبكر على التوجيه، لمصاحبة المتعلم في بلورة مشروعه الشخصي وتعزيز التربية على الاختيار.

يتضح جليا، انطلاقا من الاختيارات الكبرى للمنهاج الدراسي ومن خلال رافعات التغيير والتجديد في الرؤية الإستراتيجية للإصلاح، أن النظام التربوي المغربي قد تبنى التربية على الاختيار كمكون أساسي من بين مكوناته وكآلية يمكن من خلالها تحقيق مردوديته الداخلية والخارجية. كما تناول ممفهوم الاختيار في بعده التطوري والنمائي ، ولم يعتبره عملية أنية وستاتيكية تتم في وقت ومكان محددين، بل عملية نمو وتطور تتم عبر مراحل وفترات يجتازها المتعلم مند ولوجه للمدرسة للوصول به في النهاية إلى النضج الذي يكفل له اتخاذ قرارات واعية ومسؤولة.

هذا المنظور النمائي للاختيار، استرعى اهتمام العديد من الباحثين في مجال الدراسات السيكولوجية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها منذ بداية القرن المنصرم، أفضى إلى ظهور عدة نظريات حاولت تفسير مفهوم الاختيار وتحديد العوامل المؤثرة في اتخاذ القرار وحددت الآليات والميكانيزمات القمينة بمساعدة الأفراد على الاختيار. كما أجمعت معظم هذه الدراسات على أن الاختيار ما هو إلا نتاجا لسيرورة تتفاعل فيها ثلاث أنساق من التمثلات يكونها الفرد في سيرورته الحياتية: تمثلات حول الذات وتمثلاث حول التكوينات وتمثلات حول المهن. وأن تكوين أو تغيير أو تصحيح هذه التمثلات، يتفاعل فيه الأسري والمدرسي والمجتمعي بكل مكوناته من خلال ما يعيشه الأفراد من تجارب في حياتهم.

ومن بين النظريات التي ساهمت بشكل كبير في استحضار الأبعاد التربوية والنمائية للاختيار، وشكلت منطلقا اساسيا لتنزيل مفاهيم التربية على الاختيار في الأنظمة التربوية، نجد نظرية جينسبرغGinsberg . هذه النظرية قدمت الاختيار كنتاج لسيرورة نمائية تتداخل فيها عدة عوامل داخلية وخارجية تتوج بالتوافق بين رغبات الفرد والواقع الذي يعيش فيه، مؤكدة أن سيرورة الاختيار تمر عبر ثلاث مراحل أساسية: بداية بمرحلة الاختيارات الإيهامية، ومرورا بمرحلة الاختيارات الوسطية، وانتهاء بمرحلة الاختيارات الواقعية.

مرحلة الاختيارات الإيهامية: choix fantisistes

تبتدئ مرحلة الاختيارات الإيهامية مند سن الرابعة، وتتجسد عند سؤال طفل عن المهنة التي يود ممارسها في المستقبل؟. إجابات الأطفال في هذه المرحلة غالبا ما تكون موسومة باختيارات باهرة وعظيمة و مغامرة. اختيارات لاتستند على رؤية موضوعية للأطفال لذواتهم، بقدر ما تعتبر تعبيرا عن حاجات لديهم أو حاجات للمحيطين به: أريد أن أصبح طبيبا لمعالجة جدي المريض، أو أريد أن أصبح شرطيا لإعطاء الأوامر للآخرين، أو أريد أن أصبح لاعب كرة لأكون مشهورا مثل ميسي، أريد أن أصبح وزيرا، أريد أن أصبح راقصة…

هذه الاختيارات، رغم عدم استنادها على أسس موضوعية، ولكن تعد الخطوة الأولى في سيرورة الاختيار؛ وفي بناء المشروع الشخصي والحياتي للطفل. وعليه فهي تقتضي من المحيطين بالأطفال، وخاصة الآباء والأمهات والأساتذة، تفهم هذه الاختيارات وعدم تبخيسها، وعدم معاتبة الأطفال أثناء التعبير عن بعض الاختيارات الغريبة وغير المقبولة في بعض الأوساط الاجتماعية؛ بل العمل على مساعدتهم على التموقع في المستقبل من خلالها وذلك بتوسيع مخيلتهم حولها وبشروط وظروف ممارستها، وربط ممارستها بالتعلم الدراسي ومساعدتهم على تكوين صور إيجابية حول ذواتهم من خلالها، وعلى العيش بأمل تحقيقها.

مرحلة الإختيارت الوسطية choix intermediaires

بعد المرحلة الإيهامية، يمر الطفل تدريجيا، في حدود سن الحادية عشرة، إلى الاختيارات الوسطية، من خلال سعيه البحث عن أسس يحاول أن ينبني عليها اختياراته، ويبدأ تدريجيا في الوعي بتعدد العوامل المرتبطة بالاختيار. تتميز هذه المرحلة بالتطور في الوعي بقدراته الذاتية وبالعوامل الخارجية التي يجب أخذها بعين الاعتبار في الاختيار( مثل سلبيات وايجابيات المهنة، الراتب، مدة الدراسة، ظروف ممارسة المهنة/موقعها في المجتمع…). تتميز هذه المرحلة بأربعة أطوار: طور الميولات وطور القدرات وطور القيم وطور الانتقال.

في طور الميولات، والذي يصادف الفترة القبلية للمراهقة، غالبا ما يتجه الأطفال نحو التفكير في اختيار المهن الممارسة من طرف أوليائهم أو المحيطين بهم (أحب أن أكون جنديا مثل أبي / أود أن أكون معلمة مثل خالتي ). وهو الأمر الذي يقتضي من المحيطين بالطفل، وخاصة الآباء والأمهات ومهنيي التوجيه، في هذه المرحلة، توعية الأطفال بخصوصيات هذه المهن وتقديم معلومات كافية حولها وتعريفهم أن ممارسة هذه المهن تتطلب قدرات ومهارات وخصائص على الفرد اكتسابها قبل ممارستها. كما ينصح بتفادي تبخيس بعض المهن. فالطفل عليه الوعي تدريجيا، في هذه المرحلة، أن ممارسة مهنة ما لايتم فقط لأننا نحب هذه المهنة ولكن كل مهنة تتطلب خصائص معرفية وجسمية ونفسية لممارستها. هذا الوعي يشكل لبنة أساسية في بناء تصور أولي لاختياراته المستقبلة، ويمكنه، بمساعدة المحيطين به، على التفكير في الاشتغال على تنمية بعض خصائصه الذاتية وتطويرها .

أما طور القدرات، والذي يمتد من سن 13 إلى 14، والذي غالبا ما يصادف المرحلة الإعدادية، يستشعر الأطفال أن الاختيار ليس مرتبطا فقط بما نحب أوما نميل إليه، بل لابد من استحضار القدرات في الاختيار، و يستدخلون تدريجيا العوامل الواقعية في الاختيار وخاصة الدراسة. هذه المرحلة تقتضي من المحيطين بالأطفال، وخاصة المدرسين، مساعدة الأفراد على الوعي بقدراتهم الذاتية من خلال تعزيز هذه القدرات والعمل على تطويرها رغم بساطتها، وتفادي تبخيسها من خلال تقديرات سلبية من قبيل أنت ضعيف جدا في هذه المادة، أنت لن تحقق شيئا في حياته، أنت مكانك ليس المدرسة… لأنها تساهم في تكوين صور سلبية للمتعلمين حول ذواتهم يكون لها تأثير كبير على اختياراتهم المدرسية والتكوينية والمهنية في المستقبل.

أما خلال الفترة الممتدة من 15 إلى 16 سنة، والمصادفة لطور القيم، يسيطر على المراهق، في هذه الفترة، فكرة ايجاد موقع له في المجتمع، ويستحضر تدريجيا أن اختياراته المهنية تتدخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وعليه فمساعدة المحيطين بالمتعلمين في هذه المرحلة، عليها التمركز، من جهة حول اختبار ميولاتهم في الواقع المعاش من خلال أنشطة مدرسية وأنشطة خارج المدرسة، لتحديد ملامح المجال المهني الذي يمكنهم الاشتغال فيه (عيش تجربة محامي يترافع في المحكمة مثلا)، ومن جهة أخرى، من خلال بناء قيم صلبة لديهم من قبيل:أهمية العمل ومساعدة الآخرين والإخلاص في العمل،… لأنهم ينظرون للمستقبل، في هذه المرحلة، ليس في ممارسة المهنة في حد ذاتها بل في أسلوب حياة بالنسبة إليهم.

وبخصوص طور الانتقال، والذي يصادف نهاية الدراسة الثانوية، يعد فترة حاسمة في سيرورة النضج المهني لدى المتعلمين، من خلال وعيهم التام أن الاختيار هو نتاج لتفاعل العديد من العوامل الداخلية والخارجية، وكذا من خلال رغبتهم الجامحة في طلب مساعدة المحيطين بهم حتى يتمكنون من خلق جسور للتوافق بين مقوماتهم الذاتية والواقع الذي يعيشون فيه.

مرحلة الاختيارات الواقعية réalistes les choix

بعد هاتين المرحلتين، الإيهامية والوسطية، تأتي مرحلة الاختيارات الواقعية، وغالبا ما تبدأ ما بين سن 18 و21 أو إلى حدود الدخول في ممارسة مهنة معينة والالتزام بشغلها. فإذا كانت المراحل السابقة، ساهمت في جعل الطفل والمراهق واعيا بأن الاختيار مرتبط بعوامل داخلية وخارجية، وبعد خلق الحاجة لديه للبحث عن مد جسور التوافق والانسجام بين قدراته الذاتية والواقع المعاش؛ تتميز هذه المرحلة بأنها المرحلة التي تتبلور فيها الميولات والقيم ويصل فيها الفرد إلى النضج المهني. هذا النضج الذي يجعله واعيا تمام الوعي بالعناصر الموضوعية التي تتحكم في الاختيار أكثر فأكثر ويتمكن من اتخاذ قرارت موسومة بالواقعية والموضوعية.

من خلال ما قدم، يمكن الإستخلاص أن التربية على الإختيار، وفق نظرية جينسبرغ، هي آلية تربوية يمكن من خلالها مساعدة الأفراد على الانخراط ، مند سنواتهم الأولى ، في مشروع حياتي يتدرج من المشروع المدرسي إلى المشروع التكويني ، ثم المشروع المهني. وذلك عبر مساعدتهم على الوعي بقدراتهم الذاتية وعلى تطويرها بهدف اتخاذ قرارات واعية ومبررة، وذلك عبر خلق جسور للتوافق بين خصوصياتهم الذاتية والواقع الذي يعيشون فيه، وكذا مساعدتهم على تقبل ذواتهم وتكوين صور إيجابية نحوها، واختبار هذه الصور في عالمهم الواقعي وتحويلها إلى حقيقة واقعية تكفل لهم، من جهة، تفتح شخصياتهم، ومن جهة، أخرى خدمة مجتمعاتهم. لان الاختيار ليس اختيار مهنة فحسب بل اختيار أسلوب حياة…

هوامش

بديع محمد القاسم، علم النفس بين النظرية والتطبيق، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2001.

Charles Bujold, « Choix professionnel et développement de carrière », Gaëtan Morin éditeur, Canada, 1989.
Dennis Pelletier et Raymonde Bujold, “Pour une approche éducative en orientation”, Gaetan Morin Éditeur, Canada, 1984.
Jean Guichard, « Pour une approche copernicienne de l’orientation à l’école », Rapport au Haut conseil de l’éducation en France, France, Novembre2006.
Jean-Michel Barreau, « Dictionnaire des inégalités scolaires », ESF éditeur, Paris, 2007.

بقلم : خالد فتاح

مفتش في التوجيه التربوي ومهتم بقضايا التربية والتكوين