مدرسة التعلم لا المراقبة
إن معظم الأنشطة المقترحة أو المفروضة في القسم لا معنى لها بالنسبة للتلاميذ. نعلم بأن التلاميذ لم يعد اهتمامهم كبيرا بالنحو والأشكال الهندسية والقواعد الرياضية… فهمنهم من يجد المعنى في النجاح حصرا أو في مشروع يرتبط باجتياز امتحان أو مرتبط بالتقدير أو الحصول على نقطة جيدة. ونحن نتساءل حينما لا يوافق المحتوى مصلحة التلاميذ ألا يمكن إبداع المعنى عن طريق وضعيات معيشة ؟
لكي يحصل التعلم في القسم يجب أن نشعر بوجودنا الفعلي، ولكي يتم ذلك يجب الاعتراف بنا (الاعتراف المتبادل بين التلميذ والمدرس). وليعترف المدرس بالتلميذ عليه أن يستمع له ويحترمه. والمؤسف أنه في ثقافتنا أن التلاميذ هم من عليهم الاستماع واحترام المعلم-المدرس- المكون.
إن المسألة تتعلق بتربية على المواطنة تجعل التلاميذ مستقلين ومسؤولين عوض استغراق الوقت في جعلهم اتباعا. فيقال علنا أو خفية: عليكم القيام بكذا أو كذا، قوموا بكذا، طبقوا كذا…. إن بناء المعارف لا يكون خطيا لأنه يتطلب الانعطافات، بل وحتى العودة المتكررة للوراء .
علينا أن نعي الوضع الذي توجد عليه المدرسة اليوم. هناك من يجتهد ليقيم أجهزة للمراقبة في المؤسسات التعليمية عوض الاجتهاد في إعطاء الحرية الفكرية للتلاميذ. ومن جانب ثان لابد وأن نذكر بأن الأطفال اليوم يستعملون اللعب الالكترونية والحاسوب والفيديو والانترنت …إلخ في منازلهم مما يجعل المدرسة أقل جاذبية بملفاتها وتمارينها ومستنسخاتها…إلخ. إن فضاء يغيب فيه المعنى (كالفضاء المدرسي) يغيب فيه المستقبل . هل الحضور إلى المدرسة يوميا هو مهمة المدرسة؟ هل الحضور إلى جانب الأصدقاء والصديقات ونسج العلاقات بين الأقران هو ما تبقى للمدرسة؟…
نعتقد عن خطأ بأن المدرسة تنقل المعرفة. إنه نفاق كامل لأنها لا تقوم بذلك. يقضي المتعلم سنوات وهو يتعلم اللغة العربية أو الفرنسية، وربما يتعلم كل ذلك وغير ذلك من المستوى الأول ابتدائي إلى ما بعد الباكالوريا، غير أنه لا يعرف طرح السؤال المناسب بهذه اللغة أو تلك حينما يكون في وضعية تتطلب منه الحديث بلغة معينة. ويعني هذا الأمر أن التلميذ يتعلم في المدرسة شيئا آخر، يتعلم شيئا آخر غير معلن عنه كأن يكون طيعا وخاضعا ومؤمنا بالتراتبية والهيمنة والعبودية، يتعلم كيف يمحق ويصير عبدا جيدا وأليفا. وبالجملة يتعلم كل ما لا يقال علانية.
يطلب المدرس(ة) من التلميذ أن يكون طيعا وخاضعا، وهذا ما يهم في نهاية المطاف وليس المعرفة .
لن ينوب المدرس عن التلميذ في تعلمه. إن التعلم قدر التلميذ ذاته. والتعلم، كذلك، ليس هو انتظار من يعرف كيف يحمل معارفه ليلقيها أو يلقنها لمن لا يعرف. علينا الاقتناع بأنه على كل تلميذ أن يبني بنفسه معارفه الخاصة ؛ ولا يقتصر هذا الجانب على جعله نشيطا فحسب (يمارس النشاط يدويا أو السقوط في التنشيطية الفارغة)، بل أن يكون هو الفاعل، أي صاحب الفعل (النشاط الذهني) .
ما يلاحظ أنه حينما نطلب من المدرسين الإجابة عن السؤال ما معنى التعلم في إطار مهنتهم تصب الإجابات فيما يقوم به المدرسون ليكسبوا التلاميذ بعض أنواع المعارف. ألا يكمن هنا الخلط بين التعلم و التدريس apprendre et enseigner؟ لا يهمنا الخلط الذي تتسبب فيه اللغة الفرنسية بمرادفتها بين الكلمتين. ثم إن ما نرمي إليه لا ينحصر في المعنى اللغوي. فالتعلم يهم التلميذ والتدريس يرتبط بالمدرس.
سنكرر ما قلناه سابقا، يمكن للمتعلم وحده أن يتعلم وليس لنا غير وضعه في وضعية تمكنه من تملك المعارف. فالتعلم ليس هو ما يقدمه لنا العارف.
إن التعلم هو قيام التلميذ بنفسه بمعرفة في العمق. وإذا رفض أحد التلاميذ التعلم لا يمكننا إجباره على ذلك ولا الحلول محله للقيام بما كان عليه أن يقوم به. ولو توهمنا بأننا نمثل من يعرف ويعلم كثيرا بإمكاننا التعلم كثيرا إذا ما قبلنا الاستماع للتلاميذ ولاحظنا ما يحدث حولنا .
ليقوم التلميذ بإنجاز نشاط تعلمي ما لا يقتصر الأمر على الفهم؛ إنه التعلم، وهو إعطاء المعنى للنشاط؛ بمعنى الإحساس بأن الأمر يهمه. فلا معنى لأنشطة لا تمس التلميذ لأن ذلك يجعلنا ندرس مشاريعنا نحن، ومشاكلنا نحن، واهتماماتنا نحن، والتزاماتنا نحن المدرسين… وليس ما يرتبط بالتلميذ ويهمه. فكيف يحدث التعلم في هذه الشروط، وبالتالي فإن إعطاء أو إضفاء المعنى على ما يتعلمه التلميذ الذي يعني أن يعيش ما يتعلمه؟ إن المدرسة التي تختفي فيها الحياة لا تعلم سوى البربرية . ينبغي أن تعلم المدرسة الالتزام والانخراط .
ربما نميل جميعا كمدرسين أو تصيبنا الرغبة لتنمية الاستقلالية والفكر النقدي والمسؤولية وإكساب طرق البحث للتلميذ… إلخ. فهل ننمي كل ذلك فعليا؟
لا يكفي التوفر على استعمال زمني وقضاء ست أو ثمان ساعات بمؤسسة تعليمية للتعلم. ففي غالب الأحيان لا يكتسب التلاميذ معارف حقيقية بل معارف أو انتاجات ميتة لأنها تقدم لهم كحقائق غير قابلة للنقد والتطور والتجاوز. فالاشتغال على المعنى وبناء المعارف والكفايات يكون بغاية إعادة استعمالها، وهي أبعاد أساسية للتعلم.
إنه لمن الضروري أن يتساءل المدرس عن الطريقة التي تقوم عليها الوضعية المشكلة حتى لا يطرح المشكل على السبورة، بل يطرحه للتلاميذ!.
ليس المراد هو طرح وضعية مشكلة للتلاميذ ومطالبتهم بما يجب أن يقوموا به وكيف يقومون بذلك.
إن المقاربة التي نرمي إليها تسير عكس اتجاه ثقافتنا البيداغوجية ، وعاداتنا؛ أي أنها تسير ضد مفهومنا للمدرس العارف، المالك للسلطة.
صحيح إنه مدرس يهيئ طريقته أو مقاربته ذهنيا إلا أنه غير ملزم باتباعها. وإذا لم يكن في مثل هذه الحالة الذهنية فإنه لا يستطيع إعداد وضعية مشكلة مما يجعلها تافهة وغير ضرورية. وإذا لم يفهم التلاميذ ما سيقومون به ولماذا يقومون بذلك لأننا لم نسمح لهم بالوعي بذلك فإننا سنسقط في غباء التخصصات ، وبالتالي ستعدو الوضعية المشكلة عبء ثقيلا على التلاميذ.
لا بد من الإشارة إلى أن هذا النوع من البيداغوجيا يرتبط بقيم لم تتطور بعد في التعليم. فالوضعيات المشكلات تحمل قيما إذا لم يتملكها المدرس ستبدو مصطنعة. ولذلك على المدرس أن يكون واعيا تمام الوعي بذاته وبما يقوم به وبما يقوله .
كما أن الطريقة التي سيسلكها المدرس في بناء الوضعية المشكلة تشكل جزء من مفهوم الوضعية المشكلة.
لا يمكن أن نجعل الآخرين يعيشون فعليا ما عشناه نحن. كما لا يمكن أن نفهم بعمق إلا ما يمسنا نحن أو يثيرنا نحن، أي ما يجعلنا ننتج معنى في وضعية واقعية.
وبناء على ذلك فإن أحسن طريقة للدخول في مفهوم الوضعية المشكلة هو اقتراحها على التلاميذ ومواجهتهم لها.
لا شك أن الكتب المدرسية والدلائل الخاصة بالمدرس مليئة بمقترحات حول الوضعية المشكلة في هذه المادة الدراسية أو تلك أو بعامة. ولكن هل يتعلق الأمر فعلا بوضعيات مشكلات؟ لربما هي أشباه وضعيات أو مسائل أو تمارين أو ألغاز؛ ولذلك لا يكفي استعمال لفظ أو تعبير وضعية مشكلة ليكون النشاط المطلوب القيام به من طرف التلاميذ كذلك.
لقد انتهى زمن التمارين أو أشباه المشكلات في القسم. إن المطلوب بيداغوجيا اليوم هو الوضعيات المشكلات.

الحسن اللحية | أستاذ علوم التربية (مركز التوجيه والتخطيط التربوي)، باحث في البيداغوجيا و فلسفة التربية.