أَثْرَت الجامعة المغربية خلال النصف الثاني من القرن الماضي فضاء العلم و المعرفة الكوني بعدة مفكرين ، برز هؤلاء المفكرون على الصعيدين المحلي و الدولي ؛ بل إن من أكمل دراسته منهم خارج المغرب ، تبوثقت النواة للأولى للمعرفة لديه داخل أسوار الجامعة المغربية ؛ فالحكايات التي ترويها لنا الأجيال السابقة عند مقارنتها بالوضعية التي آلت إليها الجامعة ، أشبه بحكايات ألف ليلة و ليلة . إذ كانت الجامعة المغربية فضاءا للدردشات الثقافية و تبادل وجهات النظر ، حتى الصراعات الإيديولوجية كانت تطرح على أرضية المعرفة العلمية . فكان طلاب التاريخ منهمكون بالبحث في كتابات غاستون باشلار و جان بول سارتر و جورج لوكاش … . بينما طلاب الفلسفة و علم الإجتماع مهتمون بالقراءة لويل ديورانت و ماكس غالو و أرنست ماندل … . طلاب كليات العلوم يقرؤون لفولتير و غابرييل غارسيا ماركيز و أنطون تشيخوف و هلم جرّا … . هذا فيما يتعلق بالتعرف على الآخر البعيد ، إضافة إلى إطلاعهم على كتابات الأخر القريب (الكتابات العربية) .

لكن ، ماسبق ذكره لم تتبقى منه إلا شذرات متناثرة . فالطلبة اليوم أشبه بمرتزقة مقارنة بطلبة الأمس .

مع الثورة المعلوماتية التي نشهدها ، أصبح الطالب لا يهتم بمواده التي يدرسها ، فما بالك بالإنفتاح على المواد الأخرى . لا أبالغ عندما أصرح أن مايتعدى %50 من الحاصلين على شهادة الإجازة اليوم لم يقرؤوا كتابا واحدا يوما ما . بل إن بحث التخرج أضحى يشترى و أحيانا أخرى تتم سرقته بنسب بحث أُنجز سابقا للطالب المُطالَب به ، في أفضل الحالات تجد طلبةً يبحثون في الفهارس دون قراءة الكتاب ، علما أن بعض احتياجاتهم توجد متناثرة في مواضع مختلفة من بعض الكتب لا تتم الإشارة إليها في الفهارس .

هذا فيما يتعلق بالبحث . لكن ، الآفة المتنامية بشكل دينامي و التي تؤرق المجتمعات هي الغش . إن كان الغش في البلدان الأخرى برنامجا مرحليا يلجأ له الغاش في أحد الإختبارات ، فالغش في المغرب أضحى أسلوب حياة بمباركة الأساتذة ، أضحى غاية في ذاته .

مع تعاقب السنين ، أصبح الغش جزءا من المنظومة ، فإن كان بعض الدكاترة عاجزين عن التمييز بين الطالب الغشاش و الطالب المثقف من خلال صياغته(الطالب) للمقال المكتوب في الإمتحان ، أصبح بعض الطلبة يستطيعون التمييز بين الدكتور الذي التجأ للممارسات الدنيئة بغية الوصول للغاية و الدكتور الذي اجتهد في سبيل الوصول لغايته .

شهدت التعاريف و المصطلحات و الوسائل و الأساليب اتساعا في مدلولها مع الثورة الرقمية ، فالوثيقة على سبيل الذكر لا الحصر ، لم تعد تشمل التدوين الخطي ، أصبح التدوين الإلكتروني فاعلا رئيسيا في كتابة التاريخ ، كما تعتبر وسيلة أساسية للأجيال القادمة في معرفة أسلوب حياتنا و نمط تفكيرنا و إبداعاتنا … . على غرار الوثيقة ، اتسع مفهوم الغش و مدلوله كما تطور أيضا . فإن كان الطالب الغشاش قبل ثلاثين سنة ، يمارس الغش عن طريق النقل من المراجع دون الإستشهاد بها ، أو نسخ الطالب لورقة زميله ، أو تبادل المعلومات داخل مراكز الإمتحان ؛ أمسى الغش اليوم متسع المدلول و متطوراً ، إذ يعبر عن كل الممارسات التي تندرج ضمن السلوكات الغير أخلاقية في مفهومها الكلي داخل مراكز الإمتحان ، من إستخدام سماعات الأذن (التقليدية و المتطورة) في تلقي الأجوبة ، إلى استخدام الهاتف في الغش من خلال تدوين الأجوبة في مذكرته ، أو نسخ بعض المقالات و الإجابات من أحد المواقع التي يتيح محرك البحث GOOGLE ولوجها و تدوينها في ورقة التحرير ، فاستخدام تطبيقات ك WHATSAPP و TELEGRAM و FACEBOOK ، و تصغير بعض القصاصات المطبوعة إلكترونيا من أجل تشتيت انتباه المراقب في حالة قيامه بتفتيش صاحبها … .

في ظل اتساع ظاهرة الغش بالشكل المهول الذي نشهده ، أصبح من المفروض معالجة الظاهرة بمقاربة إبستمولوجية تستحضر بعده القيمي . فالغش أصبح قيمة في ذاته ، أضحى متنفسا للطلبة من أجل النجاح و الرقي الإجتماعي المتصل بالممارسة ، مما منحه في نظر الطلبة صفة الممارسة الغائية السليمة-الدنيئة التي تظل ممارسة فعالة طول بروز الغاية .

تتمثل إشكالية الغش في عدم كونه ممارسة مرحلية عندنا ، بمجرد أن يقنع الطالب نفسه بغائية مكيافيلي ، يصبح عبدا لهذه الغائية ، إذ تترسخ في ذهنه ، يصبح على إثرها الغش ممارسة تشكل قيمة مضافة عند ممارسها ، أي يصبح قيمة من القيم الواجب توفرها بغية الوصول لهدف معين إن لم نقل أن الغش يتماثل في الأذهان كهدف ، مما يعود بالضرر على الجامعة المغربية بصفة خاصة و المجتمع بصفة عامة .

عندما نتحدث عن الغش ، فإننا نتحدث عن ممارسة مكتسبة لا نتحدث عن ممارسة فطرية . في هذا الصدد ، وجب علينا التعريف بالعوامل المساهمة في اللجوء لهذه الممارسة و المتمثلة فيما يلي :

بيداغوجية بعض الأساتذة :

يعمد بعض الأساتذة داخل الجامعات إلى إلقاء محاضرات يعتبرونها المرجع الأساسي و الأوحد للطلبة ، حيث يطالبون الطلبة بنسح ما أملاه الأستاذ عليهم في المحاضرات و إستحضاره في ورقة الإمتحان حرفيا ، مع عدم ترك فرصة صياغة الجواب للطالب بأسلوبه ، ناسين أو متناسين أنهم يتعاملون مع طلبة باحثين لا مع تلاميذ في القسم ؛

إن قام أحد الطلبة بالتوسع خارج ما أملاه الأستاذ رغم تعلقه بالموضوع ، يتم إرساله مباشرة للدورة الإستدراكية أو يتم ترسيب الطالب .

هذا المعطى المتمثل في التلقين و الحفظ ، يقتل الإبداع في حالة وجوده ؛ فأضحى الإبداع (من خلال تواجد طلاب موسوعيين) حالة شاذة عن المألوف ، مما ولد التقهقر الذي تعرفه الجامعة و يعرفه الطلاب .

إذا ، فالعامل الأول يعبر عن إبطال الأستاذ المحاضر لملكات التحليل و التركيب و النقد ، مقابل إستحضار ما دونه الأستاذ في المطبوع بحذافيره .

عدم تحمل المسؤولية :

لم يعد الطالب اليوم يفكر بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه بعد تخرجه ، إذ أصبح يختزل المرحلة الجامعية في تحصيل الشهادة ؛ لا يستطيع الطالب اليوم إستيعاب مدى إحتياج بلده لأنتلجنتسيا مستقبلية تساهم في قيادة المجتمع و تطويره . فالجامعة باعتبارها حاضنة للفكر ، تلعب دورا رئيسيا في تكوين هذه الأنتلجنتسيا ، و المرحلة الجامعية بصفتها إحدى المراحل الدراسية ، عامل أساسي في تكوين الطالب و بوثقة وعيه

الشعور بالملل :

يتحمل بعض الأساتذة دورا رئيسيا في هذا العامل ، فاستمرارهم في سلك مسالك تقليدية خلال إلقاء المحاضرات ، يقلل من فرص إستيعاب الطالب للمحاضرات و حضورها . لذلك ، يتوجب على الأستاذ تشويق الطلبة من خلال إدخالهم في جو المحاضرة ، تتبلور ميكانيزمات هذا الإجراء من خلال إستحضار السيرورة التاريخية التي بلورت حدثا معينا ، إضافة إلى إلقاء محاضرات تفاعلية يشترك الطالب مع الأستاذ من خلال الأسئلة أو الإعتراضات التي تمكن الطالب من الإستيعاب أكثر … .

فقدان الثقة :

عندما يفقد الفرد ثقته ، فهو يفقد فرصته في إبراز كينونته ؛ فالطالب بصفته فاعلا في المجال المحيط به ، تقابله عدة عراقل إن استسلم لها ، فقد استسلم لكل سلوك يقلل من ثقته بنفسه ؛ أبرز سلوك يتمظهر في سياق حديثنا هو الغش ، فالغش يؤدي بالطلبة نحو الكسل و الخمول مما يعرضهم لفقدان الثقة خلال تواجدهم داخل أسوار الجامعة .

استهتار المراقبين :

يتحمل المراقبون دورا كبيرا في طغيان ممارسات الغش ، فالتساهل من جهة ، و ترك الفرصة سانحة لمن يلجأ للغش ، و التعاطف أحيانا أخرى ، يساهم في تشجيع الممارسين على الإستمرارية ، حيث يوفَّر الجو المناسب لهم . بهذه الكيفية يستسلم طلبة أخرون منهم الباحثون للغش ، فإنعدام تكافئ الفرص يساهم في إنتشار عدوى الغش بشكل مهول ؛ كما تلعب نرجسية بعض الأساتذة دورا كبيرا في الموضوع ، فالأستاذ الجامعي أصبح يعتبر ذاته أرقى من مراقبة الطلبة أثناء الإمتحان ، حيث يعتبر البعضُ منهم أن مهمته تتمثل في إلقاء المحاضرات و (البحث العلمي) فقط ، متناسين الجانب الأخلاقي للمهنة . قد يعاتبني البعض عن هذا المعطى الأخير . لكن ، يمكنكم الإطلاع على محضر حضور الأساتذة المطالَبين بالمراقبة و تغيبهم المتكرر دون إبداء أسباب موضوعية للتأكد مليا مما أقول .

تضاؤل دور الحلقيات الطلابية :

إن كانت الحلقيات الطلابية سابقا ملتقى للطلبة من مختلف المشارب و الخلفيات الإيديولوجية ، كما اعتبرت ساحة للتصويت على طرح معين بشكل ديمقراطي . فإن دورها اليوم تراجع بشكل جلي للملاحظ ، يمكننا تأكيد هذا المعطى من خلال إنغلاق طلبة الفصائل على الماضي غير آبهين بالمعطيات الحديثة و المستجدات التي أرخت بظلالها على البلاد عموما و على الساحة الجامعية خصوصا ، أصبح الطلاب مع هذا المعطى غير مكترثين لدور الفصائل في تأطير الطلبة . كما يمكننا الإشارة إلى تعاطف بعض طلبة الفصائل مع هؤلاء الفئة (الغشاشين) فقط لأنهم في موضع الصدام مع الإداريين داخل الجامعة ، مما شجع بعض الطلبة على الغش ، كما ساهم في إنحسار دور الفصائل و صدى الحلقيات الطلابية (طبعا لا أتحدث عن الجميع) .

الكسل و الخمول :

يرغب الطلبة اليوم في الحصول على نقاط عالية دون بدل أدنى مجهود يذكر ؛ أصبح الطالب على إثر هذا العامل يلجأ للكثير من الممارسات الدنيئة كالغش ، تسول النقط من الأساتذة ، الإبتزاز ، التهديد ، الوشاية ، التذلل .

الوازع الديني :

يرى غالبية المتتبعين لتنامي ظاهرة الغش ، أن الدين و التدين زاجر لهذه الظاهرة . لكنني لا أتفق مع طرحهم ، إذ أرى أن الدين أحد العوامل المساهمة في تنامي ظاهرة الغش ، لعل أبرز ما يؤكد كلامي أن جل الدراسات المنجزة في البلدان الغربية ، تؤكد أن طلبة المدارس المسيحية أكثر ممارسة للغش من نظرائهم في المدارس العادية . أما فيما يتعلق بالدين الإسلامي ، فالمصدر الأول للتشريع أي “القرآن”، يحصر الغش عند مظهر واحد ، يتمثل في “الغش بقسط الميزان” (سورة المطففين) . أما فيما يتعلق بالمصدر الثاني للتشريع ، غالبا ما تتم رواية الحديث الذي أخرجه مسلم و الترمذي ناقصة “من غشنا فليس منا” الذي نصه كما يلي :

عن أبي هريرة أن الرسول مر على صبرة طعام ، فأدخل يده فيها ، فنالت أصابعه بللا فقال : ما هذا يا صاحب الطعام ، قال : أصابته السماء يا رسول الله ! قال : أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ؟ – من غش فليس مني ، و في رواية أخرى “من غشنا فليس منا” الحديث رقم 176 .

إذا ، فالمصدر الثاني للتشريع ، يحدد الغش في أحد مظاهره . لذلك ، يعتبر بعض الطلبة الهدف وراء ممارسة الغش في الإمتحانات محددا للأحقية في ذلك . كما نجد بعض الطلبة يشككون في متن أو سند حديث معين (علما أن الغش ترفضه المنظومة الأخلاقية في كليتها) . أما بعض الطلبة يتبجحون بآية أن الله غفور رحيم اعتبارا لنبل مقصدهم .

نظرا للإعتبارات السابقة ، فإن إزدواجية الخطاب في الدين و إحتماليته عدة تأويلات ، تحدد مخارج للغشاش ، عكس مايروجه البعض ؛ كما تلعب فرضية التوبة لاحقا عما تتم ممارسته من خطايا ، الدافع الرئيسي لدى الطلبة حتى المتشددين منهم أو الدوغماتيين ~في علاقتهم بالأخر~ للغش .

المحيط الاجتماعي :

يلعب المحيط الإجتماعي للطالب أحد الأدوار الطلائعية في ولوجه عالم الممارسات اللا أخلاقية المتمثلة هنا في الغش ، إذ يمثل ضغط الأسرة على الطالب بغية النجاح – ضغط المجتمع من خلال التهكم و التنمر – تقليد الأخ أو الصديق أو الجار … عوامل تؤدي بالطالب نحو الغش .

لذا ، يتوجب على الطالب تحصين نفسه في علاقته بمحيطه

العامل الاقتصادي :

إنطلاقا من فرضية فريدريك أنجلز حول كون ماهية الأخلاق نتاج الوضع الإقتصادي للمجتمعات خلال سيرورتها التاريخية ، فإن الطالب بصفته جزءا من مجتمع معين يتأثر بوضعيته الإقتصادية الراهنة ، إذ يسعى الطالب مع بلوغه سنوات الشباب لتحسين وضعيته المادية . لهذا ، يرى الطالب لاشعوريا أن الأخلاق غير ثابتة مقرونة بالقفزة الإقتصادية الممكن تحقيقها ، في ظل كون الصراع الطبقي المحرك الأول للتاريخ و الإنسان . لذلك و علاقة بموضوعنا ، يتوجب وجود رادع للممارسات الدنيئة المتمثلة في العقاب المقرون بالنظام التعليمي العادل .

تمثل هذه العوامل و المعطيات الدور الرئيسي في إنتشار عدوى الغش بهذه الكيفية و هذا الكم .

لكن ، في ظل المعطيات التي سبق لنا ذكرها ، من يتحمل مسؤولية الوضعية الراهنة التي آلت إليها الجامعة ؟ . يمكننا تحميل المسؤولية للأطراف التالية :

1. مؤسسة الأسرة

هذه الممارسة التي نحن بصدد الحديث عنها ، ليست وليدة المرحلة الجامعية ، إنما تفشت بشكل دينامي مع الطالب منذ مراحله الأولى في الدراسة . عندما يكون التلميذ دون 18 سنة ، فإن للأسرة سلطة عليه . لكن ، غياب دور الأسرة في التربية و التوجيه و الإرشاد ، يساهم في ولوج التلميذ عالم الممارسات غير اللائقة ، فتجده مقبلا على هذه السلوكات منذ مراحله الأولى في الدراسة تحت أعين الأسرة .

في طرحنا للغش ، نجد نمطين يستخدمهما الأسر ؛ يتمثل النمط الأول في عدم الإكتراث للتلميذ ؛ اللاإكتراث هذا ، يجعل التلميذ يلج عالم الممارسات اللاأخلاقية تدريجيا حتى دخوله الجامعة ، فيصبح بذلك وباءا ينشر العدوى بين رفاقه . أما النمط الثاني ، يتمثل في تشجيع الأسرة للتلميذ تحت ذريعة “الغاية تبرر الوسيلة” ؛ ينتج عنها تكوين تلميذ موبوء إجتماعيا ينشر العدوى بين رفاقه .

لا يمكننا تحديد أي نمط أخطر على التلميذ أو الطالب من الأخر ، فكلاهما أخطر من بعضهما .

2. المؤسسة التعليمية :

تلعب المؤسسة التعليمية دورا أساسيا في تشكل ممارسة الغش بشكل دينامي . فالوزارة التي تندرج تحتها المؤسسة التعليمية تسمى “وزارة التربية و التعليم” أي أن التربية قبل التعليم . للأسف ، تختزل المؤسسة التعليمية التربية في تسريحة الشعر أو منع إستخدام الهواتف داخل فضاء المؤسسة أو … ، تختزلها في هذه الشكليات التي تكبح حرية التلميذ و تقيده ، جاعلة منه مجندا خاضعا لا تلميذا . فالجانب الأخلاقي أهم في التربية ، لكن المؤسسات التعليمية لا تعطي هذا الجانب أي اهتمام ، فالحملات التحسيسية مقتصرة على بعض الملصقات التي نجدها أيام الإمتحانات ؛ رغم أن الحملة التحسيسية في الجانب الذي نطرحه ، تقتضي نشر منظومة قيمية أخلاقية بكل الوسائل الإبداعية التي يكون التلميذ فاعلا فيها ، كالرسم – الغناء – الأنشطة الثقافية – تظيم مسابقة سنوية للتلميذ النزيه …

3. الطلبة كممارسين :

لا أستثني الطلبة من المسؤولية ، رغم إعتباري لهم ضحايا بيئتهم ؛ إلا أنهم بدورهم انساقوا تماشيا مع المغريات ، فانعدام روح المسؤولية و الضمير ، يتحمل الطالب فيهما الدور الأساسي .

4. الأساتذة و المراقبون :

كما سبق لنا الإشارة ، فالأساتذة هم الحلقة الأقوى في المنظومة . رغم إستفحال هذا الوباء بقوة داخل الجامعة المغربية ، إلا أنني أعتبر هذه الفئة بإمكانها القيام بمحاولات قد تخفف من حجم الضرر . منها :

  • التزامهم بواجبهم المهني في الحراسة و انضباطهم .
  • عدم الإستخفاف بأهمية الحراسة كدور أساسي في تكوين الأنتلجنتسيا المستقبلية .
  • زجر الغش بكل الوسائل المتاحة لكي يظل المعاقَب عبرة لغيره (يلعب التساهل مع الممارسين دورا كبيرا في تفاقم الظاهرة) .
  • الإنضباط في دوريات الحراسة بدل الركون إلى طلبة الحراسة و الجلوس على الكرسي .
  • التوعية بخطورة هذه الممارسة على ممارسها مع مرور الوقت عليه و على محيطه .

فيما يتعلق بالمراقبين ، يتوجب عليهم الحفاظ على تكافئ الفرص بما تخوله لهم الأعراف ، كما يتوجب عليهم التبليغ عن التجاوزات و الصرامة أثناء الحراسة ، عدم الدخول في أحاديث مع المُمتَحَنِين خشية إستجلاب إستعطافهم .

يمكننا القول بإيجاز في التعريف السيكولوجي للغش ، أنه أحد أشكال السلوكات المنحرفة ، يناقض القيم التي تقوم عليها العملية التربوية ~أي اعتباره اضطراب نفسي~ . بما أن الغش سلوك مكتسب ، فتطوره مقرون بتطور سلوك الفرد ، إذ تدفع إليه ميكانيزمات داخلية كالحرص على النجاح ، و إجتماعية كالحصول على مركز إجتماعي . لا يمكننا القول أن فكرة السلوك المنحرف من إختراع علماء الإجتماع ؛ فالحياة الإجتماعية تؤكد على واقعية السلوك المنحرف ، إذ تكون الجماعة في مجتمع معين ، المحدد لأنواع معينة من الأفعال التي تدرج كمخترقة للأعراف (الأعراف التقليدية – الأعراف القانونية …) ، كما يتم تحديد أفراد معينين كمخترقين لها ؛ هنا تتبلور أمامنا الأخلاق في مفهومها الجزئي ، فرغم بروز الغش كممارسة غير أخلاقية في مفهوم الأخلاق الكلي ، لكن ، تحديد ممارستها كسلوك منحرف ظلت ضمن الأخلاق في جزئيتها .

عندما نتحدث عن إقتران تطور الغش بتطور سلوك الفرد ، وجب علينا التأكيد على إقتران الغش بالحياة الدراسية . يمكننا القول أن مراحل الدراسة ذاتها مراحل تطور الغش . لذلك ، نصنفها على الشكل التالي :

1. مرحلة الغش الأولية :

عادة ما ترتبط مرحلة الغش الأولية بالمراحل الدراسية الأولى للفرد ، بيد إمكانية إستمرارها عند الفرد المتأخر نسبيا في ممارستها حتى مراحل متقدمة ؛ لكن ، تقترن المرحلة غالبا بالسنوات الست الإبتدائية ؛ يكون الطفل غير واع لممارسته ، فيكون الغش عنده متأثرا بعامل خارجي ، كما يكون في مجال ضيق نسبيا .

2. مرحلة بروز الغش كممارسة :

تبرز المرحلة الثانية عند دراسة التلميذ في الإعدادية و الثانوية ، حيث يتبوثق الغش كممارسة شخصية غائية بغية إرضاء محيطه الأسري خاصة و الإجتماعي عامة ، كما يتنامى سلوك التلميذ في الغش إنطلاقا من مسايرته لمحيطه المتمثل في أصدقاء الدراسة .

3. مرحلة الغش الناضج :

تبدأ المرحلة عادة مع ولوج التلميذ سن الباكالوريا ، كما تستمر معه طول سنواته الجامعية . هنا يصبح التلميذ أو الطالب واعيا بممارساته و بيئته ، أي أن الغش لا يكون بتأثير من العوامل الخارجية ، بل بتأثير داخلي . تشهد مرحلة النضوج ، تفشي العدوى بين طلبة لم يمارسوا الغش في مراحلهم المبكرة ، نظرا لاحساسهم بفقدان تكافئ الفرص داخل قاعات الإمتحان ، كما تُضرب مصداقية النتائج بشكل خاص و الجامعة المغربية بشكل عام عرض الحائط مع ترسخ هذا السلوك أكثر فأكثر داخل المنظومة .

4. الغش كعادة :

بعد حصول الطالب الغاش على شهادته الجامعية ، يترسخ سلوك الغش لديه أكثر من ذي قبل ، فيتجرد منه كغاية ليصبح ملازما له كوسيلة فقط عند إجتيازه لأي امتحان سواء للتوظيف أو الإستمرارية أو الإرتقاء … . يلازمه الغش ، بل يتم توريث الغش للأبناء و لو بطرق غير مباشرة .

إننا اليوم ، مطالبون أكثر مما سبق بالقطع مع هذه الممارسة . إن كانت بلدان تبيع الوهم لشعبها (تصنع الحرية الخادعة) لعل أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية ، دخلت منذ حوالي القرن في صراع من أجل دحر الغش (أستحضر هنا دراسة “CHAMBERS” المعنونة ب”A STUDY OF DISHONESTY”) المنجزة في عشرينيات القرن الماضي ، فالمغرب الراهن لا يعطي أية أولوية لإجتثاث هذه الظاهرة من جدورها ، بل إن المؤسسات المخول لها معالجة هذه الظاهرة ، دخلت في تطبيع مباشر معها ، مما جعل الجامعة المغربية تنتج سنويا ألاف الغشاشين ، بدل إنتاج ألاف المفكرين .

ختاما ، يتوجب علينا التجرد من عدم تحمل المسؤولية بحجة أن الغش ظاهرة كونية و ليست مجرد ظاهرة محلية ؛ مع هذه الحجج الواهية ، أصبحت سمعتنا كمغاربة يرثى لها ، ففي تقرير نشرته مجلة NATURE حول دراسة قامت بها جامعة نوتنغهام تتعلق بمؤشر انعدام النزاهة و الأمانة في 159 بلدا ، حقق المغرب المرتبة الأولى في انعدام النزاهة و الأمانة بجانب تانزانيا .

تضعنا الدراسة السابقة أمام حقيقة تفشي السلوكات الغير أخلاقية في كليتها ، فتركيزنا على الجزئي و إهمالنا للكلي ، ساهم بتقويض المنظومة الأخلاقية في كليتها ؛ من بين السلوكات غير الأخلاقية التي ساهمت في تدني قيمة المبدأ عند المغاربة نجد “الغش” .

يتوجب علينا اليوم التكاثف من أجل إستئصال هذا الورم الخبيث الذي يهدد الجامعة بصفة خاصة و المجتمع بصفة عامة . لكن ، في ظل إزدواجية الخطاب و الممارسة عند الفاعلين داخل الجامعة المغربية ، هل بإمكاننا المضي قدما في إستئصال هذه الظاهرة ؟ ، أما آن الأوان أن نسائل ذواتنا عن الوضعية الراهنة التي تعيشها الجامعة و تحولها من منتجة للمفكرين إلى منتجة للغشاشين و سبل تخطيها ؟ .

كما يعلم الجميع ، فالتعميم من صفات الجهال ؛ إن كنا في طرحنا نلوم أطرافا عدة ، إلا أننا نشيد بالأقلية التي ماتزال وفية للقيمة المبدئية الأخلاقية ، لكننا نحاول عتاب الأطراف الفاعلة التي تمثل الغالبية في تردي الوضع ، إنطلاقا من أسلوب العلاج بالصدمة .

لقد حاولت قدر الإمكان وضع القارئ فيما شهدته و تشهده الجامعة المغربية ، أتمنى صادقا أن تتكاثف جهود الفاعلين داخل الجامعة المغربية من أجل القضاء على هذه الظاهرة ؛ أما الإصلاحات الفوقية ، لم تساهم إلا في تقويض الجامعة بدل إصلاحها ، أي يمكننا وصفها بالتخريب الجامعي بدل الإصلاح الجامعي ، لأنها انطلقت من الذات و من برنامج مرحلي ضيق أي أنا و بعدي الطوفان . بل إن هؤلاء الفوقيون طرف في أفول دور الجامعة كمنتجة للمفكرين

بقلم: آدم الحسناوي