لا أحد يماري في ما للأعمال المدرسية المنزلية من منافع وإيجابيات، بل إنها صُلب البناء وسرّه الخفي وعموده الفقري ، وبها يتفاوت المتنافسون ، ويسبق بعضهم بعضا ، لمن أراد عصامية التكوين ومتانة الأساس.
لكن الأمر يتجاوز حدّه، وينقلب عكسيا عندما يصبح ثقلا، ينوء بحمله المتعلمون الصغار في التعليم الأساس وسنواته الأولى تحديدا. عندما تصبح الوظائف أو الواجبات أو الفروض أو الأشغال المنزلية همّا لا يطيقه لا الصغار ولا أولياء أمورهم، وطقسا يكاد يقترب من وجبة شقاء يومية منفرة. والحديث هنا سارٍ على التعليم ببضاعتيه، العام منها والخاص. ( أصبح هذا التقسيم لازمة مفروضة، تُفرق بين الذي ينبغي أن يكون مجموعا).

يعود كثير من الشداة حديثي العهد بعالم المدرسة، وهم محملون بأثقال، ومطالبون بإنجاز كمٍ لا ينتهي من الأوامر المدرسية المفروضة في الليلة الواحدة، وتتعدد هذه الأشغال بتعدد الأساتذة، كل يحرص على أن تُنفذ تعليماته، يُرغب وأحيانا يُرهب.

ليس الأمر في أساسه مسألة أشغال زائدة، أو همّا مضافا لا مجال له في جدول أعمال الآباء الذين هم في شغل دائم، لكن الأمر متعلق بجدوى هذه الأشغال وضرورتها، والصورة المنفرة التي تترسخ لدى هؤلاء الصغار عن المدرسة في أول عهدهم بها، فتغدو مصدرا للإرهاق والبؤس والشقاء.

ويكتسي الأمر سلبية مرفوضة حينما لا تكون هذه الواجبات المقنطرة لذاتها ، وإنما تلميع صورة وإرهاق كاهل. ولنا أن نتأمل التعاليم القديمة الشهيرة (اُكتب من الصفحة .. إلى آخر الكتاب ، أجِب عن التمارين العشرة الأولى ، احفظ جميع الملخصات…).

بيّنت (دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية أن 34% من الأولاد و25% من البنات البالغة أعمارهم 11 سنة يشعرون بأن الواجبات المنزلية تمثل عبئا عليهم، كما أن هذه الأرقام ترتفع مع التقدم في السن لتبلغ 70% لدى البنات و60% لدى الأولاد في سن الخامس عشرة).ففي أغلب الأنظمة التعليمية الفعالة (الاسكندنافية خاصة…) يستفيد تلميذ المراحل الأولى من أكبر قدر من الوقت ليلعب ويرتع، ويبني جهازه النفسي، وينمي علاقاته الاجتماعية مع أسرته ومحيطه، بما هو كائن اجتماعي وليس “قرصا صلبا” أو ذاكرة حافظة، أو “كائنا” مزعجا يجب إلهاؤه، بعد أن تكون المدرسة قد أدّت ما عليها، وتداركت أمر المختلفين، وأصحاب الإيقاعات المتوسطة ، تدعمهم وتُقيمهم في اللحظة والحين.

أمام هذا “الإزعاج” المتردد، تلجأ بعض الأسر إلى “حوانيت” الساعات الإضافية ( عبارة عن “مقاولات” تربوية صغرى، لا تُضاهي بأي حال المستثمرين الكبار وأصحاب الاحتراف) ليس رغبة في الدعم كما ينبغي أن يكون، ولكن بهدف إنجاز وإزاحة هذا الهم اليومي، ليفرغ بعدها الشادي إلى هواياته وشغبه، وليفرغ الآباء إلى ما هم إليه متفرغون.

والمثير في الأمر أن هذه العصامية المنشودة والفريدة في نوعها، لا تلبث أن تتخذ صيغا أخرى، كلما توغل التلميذ في أنفاق التعليم، فبعد حين سيصبح المسكين وأهله مطالبين، ليس فقط بإنجاز هذه الواجبات، وإنما بنسخ المدرسة بكامل أركانها، حيث سيتوجب عليه أن يؤثث فصلا بثلاثيته المعروفة ، التلميذ والأستاذ والمعرفة، يؤثثها في بيته أو يلتمس لها سبيلا في “رحْبات” الساعات المزيدة .

بقلم : عبد الحكيم برنوص