ظهر مصطلح الذكاء الانفعالي لأول مرة في أوائل التسعينات على يد إثنين من علماء النفس هما بيتر سالوفي Peter Salovey من جامعة ييل وجون ماير John Mayer من جامعة نيوهاميشير في الولايات المتحدة، وذلك في بحثين نشراهما في العام 1990 و1993. غير أن انتشار هذا المصطلح على نطاق واسع لم يتم إلا عندما نشر المحرر العلمي لجريدة النيويورك تايمز، والمتخصص في علم النفس، المفكر دانييل غولمان D. Golman كتابه الشهير ‹‹الذكاء الانفعالي : لماذا قد يكون أكثر أهمية من نسبة الذكاء›› (1995). وقد ترتب عن إشاعة هذا المفهوم أن اختير كأفضل عبارة جديدة في اللغة الأنجليزية في سنة 1995.

وقد انطلقDaniel Goleman من فرضيته حول الذكاء الانفعالي التي تقول: ‹‹ تحدد انفعالاتنا حدود أهليتنا على استعمال قدراتنا الذهنية الفطرية، وتبث في مصيرنا بالقدر الذي توسع أو تكبح هذه الانفعالات قدراتنا على التفكير والتخطيط والتعلم في أفق تحقيق هدف محتمل وحل مشكلة … كما تقودنا انفعالاتنا إلى النجاح بالقدر الذي نكون محفزين بالحماسة والمتعة التي نحصل عليها مما نقوم به. وبهذا المعنى يعتبر الذكاء الانفعالي الكفاءة الرئيسية المؤثرة بعمق على باقي الكفاءات، وذلك بتنشيطها أو كبحها.›› (Goleman ; 1997 : 109 ). (1) (الترجمة لنا)

وفي إطار دعم هذه الأطروحة كان لزاما على غولمان البرهنة على أن انفعالاتنا وحياتنا العاطفية هي بالفعل وراء وأساس ما نقوم به في الحياة. لذلك حاول أن يبين تأثيرات انفعالاتنا على حياتنا خاصة على أدائنا الجيد أو على فشلنا، وذلك من خلال اعتماده على نتائج عدة تجارب ونتائج علمية استخلصها كثير من الباحثين.

في البداية اعتمد غولمان فوائد التحكم في الغرائز Pulsions التي أكدتها تجربة قام بها Walter Mischel ، وهي عبارة عن مباراة بسيطة تسمى “رائز الحلوى” أجراها على أطفال (4 سنوات)، فحواها أن الطفل الذي يستطيع مقاومة رغبته في تناول الحلوى إلى آخر المباراة سيستفيد من قطعتين من الحلوى، أما من لم يستطع فسيتناول حلوى واحدة في حينه. لاحظ الباحث أن أغلبية الأطفال انقضوا على حلوى واحدة غير قادرين على الصبر. أما الفئة القليلة التي عرفت كيف تنتظر وتتحكم في رغبتها للحصول على قطعتين من الحلوى في ما بعد، فقد قامت بمجهود جبار لمقاومة تلك الشهوة بأساليب مختلفة من قبيل إخفاء الرأس واللعب بالأيادي والأرجل. ما هي إذن القيمة التنبؤية لهذا الرائز؟

لقد تبين بعد سنوات من التتبع أن الأطفال الذين عرفوا كيف ينتظرون ويتحكمون في سلوكهم، قد أصبحوا فعالين ولهم ثقة عالية في النفس وقادرين على تجاوز إكراهات الحياة. ويعرفون كيف يحافظون على برودة دمهم ووضوح تفكيرهم حينما يخضعون لضغوطات نفسية، كما لا ينتابهم الشك والخوف من الفشل ويقبلون المنافسة ويصرون على ربح الرهان عوض الاستسلام والاعتراف بالإخفاق، ويبدون واثقين وجديرين بالثقة، يأخذون المبادرات وينخرطون في المشاريع ويعبرون في كل مرحلة أنهم قادرون على تأجيل المكافأة. (Goleman ; 1997 : 110)

بين “غولمان” أيضا من خلال تجربة شخصية له، أنه في أحد الامتحانات التي لم يستعد لها جيدا، قد وقع تحث تأثير خوف وارتباك شديد عطل تفكيره، حيث هيمن القلق على تفكيره ولم يعد قادرا على التوجه نحو التفكير في موضوع الاختبار. هذا الأمر أكدته أيضا كثير من الأبحاث التي بينت مدى تأثير الضغط النفسي والقلق على النتائج الدراسية.

هكذا ومن خلال ارتكازه على عدة أبحاث خلص غولمان إلى أن انفعالاتنا تستطيع أن توسع أو تكبح قدراتنا على التفكير والتخطيط وتحقيق هدف أو حل مشكلة. إن مراقبة القلق والانفعالات هو أحسن طريقة للرفع من المردودية إلى أقصاها. مما يدل على أن حالتنا الانفعالية هي أساس وأصل أدائنا، ذلك أنه إذا كانت هذه الحالات إيجابية من قبيل التحكم في الغرائز والتفاؤل والأمل والمزاج الجيد ستكون جودة الأداء مرتفعة، وبالتالي ارتفاع احتمال النجاح والتفوق. وعلى عكس ذلك إذا كانت هذه الحالات سلبية مثل القلق وانشغال البال والتشاؤم والمزاج السيئ سيكون الأداء أقل جودة ويرتفع احتمال حدوث الفشل. هكذا برز السؤال الجوهري في أوساط أهل السيكولوجية وأهل الاقتصاد: ما هو تأثير القدرات مثل التحكم في الذات والمثابرة والإصرار والتحفيز الذاتي والأمل والثقة في الذات على الحياة الشخصية والاجتماعية والمهنية؟

تأثير الذكاء الانفعالي على الحياة العملية والاجتماعية والشخصية.

عندما نشرت في هيسبريس، بتاريخ الثلاثاء 21 أبريل 2015، مقالة حول الذكاء الانفعالي بعنوان ‹‹ تناغم الذكاء الانفعالي والذكاء العقلي براديغم جديد››، جاء في أحد التعاليق للأخ ” امحمدا ” ما يلي ‹‹… قلت أن الموضوع جداً مهم لأن شخصيتي تغيرت منذ أن قرأت عن هذا الموضوع منذ تقريباً 10 سنوات من خلال كتاب ل Daniel Goleman واسم الكتاب Emotional Intelligence وأظن أنه تمت ترجمته إلى اللغة العربية والفرنسية لمن يريد أن يقرأه…

تغيرت شخصيتي للأفضل لأنني اكتشفت أن الذكاء العقلي لا يكفي للنجاح في الحياة سواء الحياة العملية أو الاجتماعية، وبتقوية ذكائي العاطفي استطعت تحسين تعاملي مع زملائي في العمل وكذلك تخفيف المشاكل العائلية التي عادة تبدأ بمشاكل صغيرة غير مهمة وتتحول مع الوقت إلى مشاكل كبيرة تنغص حياتك وحياة من حولك من الأهل والأصدقاء والمعارف… ››. لقد لخص هذا التعليق، من خلال التجربة الشخصية لصاحبه، أهم انعكاسات الذكاء الانفعالي على حياتنا.

ذلك أن مفهوم الذكاء الانفعالي يشمل عددا واسعا من المهارات والاستعدادات والقدرات التي تقع خارج نطاق قدرات الذكاء التقليدية، والتي تتضمن بشكل أساسي الوعي بالمشاعر والانفعالات التي تتعلق بالفرد في علاقته بذاته وعلاقته بالآخرين، والوعي بتأثيرها في الجوانب المعرفية والسلوكية، وبتأثيرها على جودة الحياة بشكل عام.

على مستوى علاقة الفرد بذاته فإن الذكاء الانفعالي يتضمن قدرة الشخص على التعرف على مشاعره وانفعالاته، وعلى التمييز بينها، والقدرة على التحكم فيها. والقدرة على التعامل بخبرة مع المشاعر السلبية كالشعور بالإحباط الناتج عن تراكم ضغوط الحياة.. فالذكاء الانفعالي يتضمن إذن القدرة على التمييز بين مصادر الإحباط والتعامل مع كل منها على حدة. فالعديد من المشاكل النفسية بل وحالات الاكتئاب تنشأ من عدم القدرة على تحديد مصادر الإحباط ومن الخلط بينها خلطا يؤدي إلى عجز الفرد عن التعامل مع هذه الإحباطات بكفاءة. هذه القدرة تمكن الفرد من استخدام أو توظيف مشاعره للوصول إلى قرارات صائبة في الحياة.

يتوقف التحكم في هذه الدوافع الذاتية على أحد مرتكزات الذكاء الانفعالي وهي القدرة على فهم الذات الموجهة نحو القضايا الداخلية، التي تمكن من إدراك وتصور نموذج دقيق وحقيقي حول الذات، وتمكن من استعمال هذا الإدراك لقيادة حياة الإنسان والحصول على الإحساس بالرضا والطمأنينة الداخلية. يتجلى هذا الذكاء إذن في القدرة على العيش في توافق مع الأحاسيس الذاتية العميقة.

على المستوى الاجتماعي، فإن الذكاء الانفعالي يتضمن قدرة الفرد على فهم مشاعر الآخرين وتوقع ردود أفعالهم، وهو أيضا يتضمن المهارات الاجتماعية اللازمة لبناء علاقات جيدة بالآخرين والتعامل مع النواحي الانفعالية في العلاقات على المستوى الشخصي والمهني، كما يتضمن كذلك القدرة على إقناع وقيادة الآخرين.

ويتوقف الرفع من جودة الحياة العلائقية على مرتكز ثاني من مرتكزات الذكاء الانفعالي، هو القدرة على التدبير المتناغم للعلاقات الإنسانية التي تتجلى في حسن تدبير ورعاية العلاقات بالآخرين، بمعنى القدرة على فهمهم والتعرف على محفزاتهم والكيفية التي يشتغلون بها، وكيفية التعاون والتعاضد معهم، والقدرة على حل النزاعات وتحليل العلاقات الاجتماعية من قبيل القدرة على إدراك طبع ومزاج ومحفزات ورغبات الآخرين والتعامل معهم على إثر ذلك.

على مستوى الحياة العملية فإن فكرة مردودية الذكاء الانفعالي في عالم الأعمال هي فكرة جديدة ابتدأت تحل محل النزعة “التايلورية” التي تعتمد أساسا على الحوافز الخارجية. وقد تبين أن غياب هذا الشكل من الذكاء في المقاولة قد يعرض وجودها إلى أخطار وصعوبات كثيرة وضعف المردودية. ذلك أن هيمنة الانفعالات السلبية في العلاقات داخل المقاولة من قبيل الغطرسة والعجرفة وغياب التقدير المتبادل واعتماد الزجر والتهديد في العلاقات، كل ذلك يخلق معنويات سيئة التي يكون لها تأثيرا مخربا ومهدما، وينتج عن ذلك ضعف في الإنتاجية وارتكاب الأخطاء بشكل مستمر وعدم انخراط الموارد البشرية في مشروع المقاولة انطلاقا من تحفيز ذاتي، إضافة إلى هجرة الكفاءات للبحث على فضاءات أكثر متعة.

ولتجاوز كل ذلك يفترض إنماء وتطوير كفاءات ترتكز على الذكاء الانفعالي من قبيل أن يبحث الفرد داخل المقاولة على التناغم مع أحاسيس الآخرين ومشاعرهم وامتلاك القدرة على حل الخلافات والنزاعات وحسن تدبير الصراعات قبل أن تتفاقم، وتوفير فضاء يسمح بالتواصل وبمتعة الانتماء وجودة الحياة العملية التي سترفع دون شكك من جودة الإنتاج.

إن أنسنة الوجود يفترض أن ينتبه المجتمع والأسرة والمدرسة إلى الحياة العاطفية والعلائقية والرقي بها إلى المستوى الإنساني عبر التربية، وخصوصا في المدرسة. فإذا لم تستطع المدرسة تعويض تهاون المؤسسات الاجتماعية على هذا المستوى، فإنها تستطيع على الأقل أن تتحمل جزءا هاما من تربية الأطفال على امتلاك معرفة عملية حول تدبير المشاعر والانفعالات، أي تنمية ذكائهم الانفعالي الذي يخول القدرة على معالجة المعلومات المشحونة انفعاليا وعلى استخدام هذه المعلومات في توجيه الأنشطة المعرفية وفي حل المشكلات بشكل توافقي… وبالنهاية الرفع من جودة الحياة. هكذا يبدو أن الذكاء الانفعالي قد يكون أكثر أهمية من الذكاء العقلي، أو قد يضاهيه على الأقل.

المراجع :

(1) Goleman. D.(1997) ;Lintelligence émotionnelle :comment transformer ses émotions en intelligence ; Trad.T.Piélat ; Paris ; Editions Robert Laffont ;S.A.

(2) د. محمد طه (2006) الذكاء الانفعالي ، سلسلة عالم المعرفة العدد 330. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب . الكويت. (ص 181- 180).

بقلم : المختار الشعالي