تختلف وجهات النظر حول مسألة علاقة التربية والتكوين بالمجتمع وبالاقتصاد وبالإنسان. هناك من يرى أن ينحصر دور التربية والتكوين في خدمة الاقتصاد وسوق الشغل؟ ويسود هذا الطرح في أوساط أهل الاقتصاد. ويدعو هذا التوجه إلى جعل الاهتمام ينصب أكثر، في السياسة التربوية، على المؤهلات ومضامين التكوين، حيث يغيب الاهتمام بالفرد/الإنسان وحاجاته. في حين يرى أهل التربية أن يتسع دور التربية والتكوين ليشمل خدمة الإنسان والمجتمع، حيث يسعى هذا المنظور إلى الاهتمام أكثر بإنماء الإنسان وتفتحه l’épanouissement de l’Homme ، ليس من أجل الاستعمال الأفضل للموارد البشرية فقط، ولكن أيضا وبالأساس، لتمكين كل فرد من تحقيق ذاته باعتباره كائنا مفكرا وفاعلا اجتماعيا.

إن جوهر هذا الاختلاف يكمن إذن في الرؤية للإنسان، حيث تنحصر رؤية أهل الاقتصاد في اعتبار الإنسان عاملا من عوامل الإنتاج. لذا فإنهم يرغبون في أن تسعى غايات التربية إلى إعداد الأجيال الصاعدة بعقلية الاقتصاد الجديد وعقلية العولمة. إذ تعتبر الطالب بضاعة تعرض في السوق، وينبغي أن تتوفر فيه الشروط المسهلة لتسويقه. وتتمثل هذه الشروط في امتلاك القدرة على التكيف مع متطلبات سوق الشغل والتقلبات التي يعرفها على مستوى الكفايات والمؤهلات، التي تتمثل في الحركية والمرونة وتعدد الكفاءات والاستعداد للتكوين الذاتي المستمر.

في هذا الإطار حددت كثير من المقاولات الراقية مواصفات الطالب الذي يتوفر على قابلية أكثر للاندماج في سوق الشغل، حيث ترى أن يكون له مستوى دراسي عالي، ومتعدد اللغات، وله استئناس بأوساط ثقافية وإتنية مختلفة، ويتحكم في استعمال الإعلاميات، وله خبرة في الاشتغال مع الجماعة، وله قابلية للاندماج في ثقافة المقاولة، ويمتلك حسا مقاولاتيا يحسن تقديم الخدمات إلى الزبناء ويتواصل بسهولة. وعلى هذا الأساس يدعو أهل الاقتصاد السلطات التربوية إلى جعل هذه الجانبية وهذه المواصفات غايات للتربية والتكوين.

غير أن أهل التربية لهم منظور مختلف يتمثل في اعتبار الإنسان غاية وليس وسيلة فقط. لذلك يرى هذا المنظور أن الجهود التربوية ينبغي أن تتمحور أكثر حول إنماء الإنسان وتفتحه. أي جعل حضور الفرد/الإنسان في صلب اهتمامات العمل التربوي وإجراءاته، انطلاقا من اعتباره كائنا فريدا يستلزم احترام أصالته وفردانيته وطموحاته وحاجاته. هكذا ينبغي، إضافة إلى مطالب أهل الاقتصاد، أن تنفتح المدرسة على حاجات التلاميذ واهتماماتهم وتعابيرهم الذاتية وتطلعاتهم وأحلامهم، والعمل على إنضاج هذه التعابير وتنميتها، وذلك بخلق الشروط والدعائم والسياقات المستوحاة من الواقع، لجعل التلميذ يحتك بذاته واختبار قدراته والاحتكاك بمحيطه واكتشافه، لإعداد شخصية واعية بإمكانياتها ومواهبها ومدركة للإمكانيات التي يوفرها المحيط الاجتماعي والاقتصادي، والرفع من قدراتها على التوجيه والاختيار لاستخلاص القرارات التي تمكنه من اختيار المسارات المهنية التي تسمح له بالإتيان بمساهمته الأصيلة في تحويل محيطه وتشكيله والتعبير عن أسلوبه في رسم ملامح مستقبل المجتمع الذي يعيش فيه.

هكذا يرى أهل التربية، أنه ليس من الضروري أن تكون غايات التربية ملتصقة وتابعة كليا لمتطلبات الاقتصاد، بل من المفترض أن تكون فاعلة ومؤثرة فيه، ليس فقط من أجل الرفع من إنتاجيته، ولكن أيضا من أجل أنسنته وعقلنته، انطلاقا من القناعة التي ترى أن الإنسان ترتفع مردوديته وعطاؤه وتتفتق إمكانياته الإبداعية وتزداد حافزيته واستعداده للتجاوب. ويرتفع أيضا شعوره بالارتياح والرضا حينما يحظى بالتقدير والاعتبار والاحتضان، وحينما يكون الشغل الذي يزاوله ملائما لشخصيته، حيث يغدو مجالا لتحقيق الذات وفضاء للإحساس بمتعة الانتماء والإنجاز. وبذلك سنتمكن من إنماء وازدهار الاقتصاد والإنسان معا.

بقلم : المختار الشعالي