غالبا ما نعتبر أن الهدر المدرسي ينحصر في الانقطاع المبكر عن الدراسة أو في الضياع الذي ينتج عن الغياب سواء في صفوف التلاميذ أو المدرسين، وقلما نتحدث عن الهدر الذي ينتج عن الإهمال وعدم الاهتمام بتنمية كثير من القدرات الذاتية للفرد، منها تنمية بعض الذكاءات التي يتوفر عليها كثير من الأفراد، والتي تتطلبها جوانب هامة من حياتنا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. ما هي هذه الذكاءات؟ وكيف يمكن تنميتها؟

أكد السيكولوجي والباحثHoward Gardner (1983) أن الذكاء ظاهرة متعددة الأبعاد ويأخذ أشكالا معرفية/ذهنية متنوعة حددها في ثمانية ذكاءات: ذكاء فهم الذات، وذكاء العلاقات مع الآخرين، والذكاء اللغوي، والذكاء المنطقي أو الرياضي، والذكاء الجسمي ـ الحركي، والذكاء الموسيقي، والذكاء المكاني، والذكاء البيئي. ما هي هذه الذكاءات؟

ذكاء فهم الذات l’intelligence intra personnelle:

يتميز هذا الذكاء بقدرة الشخص على فهم ذاته وعلى استخدام هذا الفهم في تمييز محفزاته وأحاسيسه ومشاعره، وتحديد مكامن قوته وضعفه والتصرف بناء على ذلك من أجل تحديد أهدافه وعلاقته بالآخرين. إن هذا الذكاء يمكن الشخص إذن من التقييم الذاتي والتفكر في الذات من أجل تنظيمها من خلال ضبط تصرفاته وأفعاله. لذا فإنه يمكن الفرد من توجيه حياته الوجهة الملائمة.

ذكاء العلاقات مع الآخرين l’intelligence interpersonnelle:

يمكن هذا الذكاء الفرد من التفاعل مع الآخرين بشكل سليم وملائم، لأنه يمكنه من ملاحظة الفروق القائمة بين الأشخاص في المزاج والطبع ودوافع الفعل، وله قدرات على فهم الغير واكتشاف مقاصده ونواياه وبالتالي التجاوب معه. إن هذا الذكاء يمكن إذن من حل المشاكل المرتبطة بعلاقتنا بالآخرين حيث يمكن من فهم وإيجاد حلول لمساعدتهم وتحفيزهم على مواصلة تحقيق هدف مشترك. لذلك فهو مهم للسياسيين ومندوبي المبيعات والمعالجين النفسيين والمدرسين والموجهين والمرشدين الروحيين، وتمتلك الشخصيات الكاريزمائية درجة مرتفعة من هذا الذكاء.

الذكاء اللغوي l’intelligence linguistique :

يتميز هذا الذكاء بالقدرة على فهم اللغة وإنتاجها واستعمالها للفهم والقراءة والتواصل شفويا أو عن طريق الكتابة. إنه يمكن من استغلال مختلف مظاهر اللغة عبر الأصوات (باعتبار الكلمة هي مجموعة أصوات)، وعبر بنية الكلمات ومعناها ووظيفتها. كل الأفراد الذين يتقنون استعمال اللغة سواء في الكتابة أو في الخطابة يمتلكون الذكاء اللغوي: الخطيب، المحامي، الشاعر والكاتب…ومجمل القول فإن الذكاء هو الذي يمكن من إيصال المعارف والأحاسيس.

الذكاء المنطقي أو الرياضي l’intelligence logique ou mathématique:

يتميز هذا الذكاء باستعمال المنطق لحل الإشكالات الرياضية والعلمية. ويشمل القدرة على إدراك الأنماط والاستدلال وعلى التفكير المنطقي، ويمكن من إبراز أساليب ونماذج منطقية عملية قابلة للتحويل والنقل والتوظيف في وضعيات متعددة. ويشمل القدرة أيضا على تحليل وتفسير أسباب الظواهر والأفعال وانعكاساتها، حيث يمكن من القدرة على ربط مختلف عناصر المعلومة والمعرفة، كما يمكن من تنمية قدرات على التجريد.

الذكاء الجسمي ـ الحركي l’intelligence kinesthésique ou corporelle:

يتميز هذا الذكاء بالقدرة على التحكم في حركات الجسم واستخدامها بشكل إبداعي سواء في الأداء الفني أو الرياضي. كما يشمل القدرة على المعالجة اليدوية للأشياء أو الآلات بشكل فني وإبداعي. ويتضمن أيضا القدرة على فهم اللغة الجسدية والتعبير جسديا عن الأحاسيس والمشاعر. إن هذا الذكاء هو الذي يمكن من إقامة علاقة منسجمة بين الجسد والروح، وينمو بوجه خاص لدى الرياضيين والممثلين والجراحين.

الذكاء الموسيقي l’intelligence musicale ou rythmique:

يتميز هذا الذكاء بالقدرة على إنتاج وتمييز وتحويل أو تثمين وتذوق إيقاع ورنة ونغمة موسيقية أو ذات طابع إيقاعي وتناغمي. إنه يمكن من فهم مختلف أشكال التعبير الموسيقي أو استعمال الموسيقى للتعبير، وبالتالي التمكن من عدة مهارات موسيقية مثل الغناء والعزف والتأليف الموسيقي، بالإضافة على تقدير هذه المهارات مع الاستمتاع بها. إن هذا الذكاء يمكن من أن نكون مدركين للإيقاعات الصوتية أو قادرين على الدخول في علاقة مع الآخرين عبر الأنغام والإيقاعات الصوتية.

الذكاء المكاني l’intelligence spatiale ou visuelle:

يتميز هذا الذكاء بالقدرة على إدراك وخلق صور ذهنية، ويمكن من التعرف على الأشكال والألوان والهندسة ويقود إلى التعبير الفني. إنه يرفع من قدرتنا على الإحساس بالصورة وإدراك العالم في مظاهره البصرية وأبعاده المكانية. ويكون هذا الذكاء مرتفعا لدى الملاحين الجويين أو البحريين، وكذلك لدى فناني الفنون البصرية ولاعبي الشطرنج المحترفين.

الذكاء البيئي l’intelligence naturaliste ou écologique:

يتميز هذا الذكاء بالقدرة على إدراك وتصنيف أنماط الموجودات وأنواعها في الطبيعة، وتقدير هذه الموجودات والاعتراف بها. وتنطبق هذه القدرة وتمتد إلى العالم الثقافي، حيث يمكن هذا الذكاء من شرحه وتفسيره. إن الذكاء هو الذي يمكن من أن يكون لنا إحساس بما هو حي ويمكن من إدراك وفهم المحيط الذي يتطور فيه الإنسان.

ترى نظرية الذكاءات المتعددة أن هذه الذكاءات تتفاعل فيما بينها لكي تمكننا من التكيف وإنجاز أنشطتنا الحياتية المختلفة أي حل المشكلات أو تجاوز الصعوبات أو تسوية وضعيات أو بلورة وترقب حلول… كما ترى أن ذكاء فهم الذات وذكاء العلاقة بالآخر هما ذكاءات أفقية تدخل بالضرورة في تنسيق مع أحد الذكاءات الأخرى لبلورة أو إبداع سلوك ذكي. ويقتضي تنمية هذه الذكاءات أن تنفتح المدرسة على أنشطة مفتوحة على الحياة وتوفر وضعيات تسمح بتنمية كل الكفاءات عبر الفعل والتمرن والتعبير بمختلف تجلياته المعرفي والوجداني والجسدي وكل التعابير الفنية الإبداعية… كما ينبغي أن تكف المدرسة عن الاعتقاد أن النجاح في الحياة يتوقف على امتلاك تلك المعرفة النظرية الجاهزة التي تمررها والتي لا تتجاوز في أحسن الأحوال تنمية الذكاء اللغوي والذكاء الرياضي تاركة باقي الذكاءات عرضة للضياع والهدر.

بقلم المختار الشعالي