عرف التوجيه تطورا هاما منذ بدايته ، حيث كان ينشط هذا التطور تارة تطور المعارف و العلوم المرتبطة بالتوجيه والتي تؤثر على طرق إدراك الواقع وتفسيره ، وتارة أخرى تقدم المجتمعات وتطور عالم الشغل ومتطلباته .

و سنقارب هذا التطور الذي عرفه التوجيه في ارتباطه بتطور طرق إدراك الناس للواقع وتفسيره . ذلك أن كل عصر تميز بالطريقة التي يدرك بها الإنسان الواقع ويفسره، حيث يصوغ إشكالاته وأسئلته وممارساته ونماذجه انطلاقا من عدد من المنطلقات والمسلمات التي تتأسس انطلاقا من الاعتقاد السائد في طريقة إدراك الواقع وتفسيره ، وغالبا ما يرتكز مجهود الناس في الحفاظ على ذلك التفسير، بل يسائلون الواقع فقط من أجل الحصول على إجابات تؤكد ذلك التفسير.
عندماتتوفر شروط تفرض التغيير فإنه يتم عبر وضع منطلقات ومسلمات جديدة ينبثق عنها منظور جديد للعالم و نماذج جديدة وبراديكم تتأسس عليها ممارسة جديدة . ما هي التطورات التي عرفتها طرق إدراك الناس للمحيط وتفسيره منذ ظهور التوجيه في بداية القرن العشرين ؟ وما هي انعكاسات ذلك على تطور النظريات التي تؤطر الممارسة التربوية بشكل عام وممارسة التوجيه بشكل خاص؟

في إطار محاولة مقاربة هذا الموضوع من هذه الزاوية سنعتمد الأبعاد الثلاثة التي اعتمدها بياجي في معرفة الأشياء والظواهر. حيث يرى أنه يمكن معرفة الشيء انطلاقا من الأبعاد الثلاث الآتية :

البعد الأنطولوجي: يسعى هذا البعد إلى معرفة الطبيعة الحقيقية للشيء ، مما يتشكل وما هي مكوناته وبنيته ؟ يتعلق الأمر إذن بتحديده ووصفه واستيعاب مكوناته . وتنبثق هذه المعرفة عن السؤال : ما هو هذا الشيء؟
البعد الوظيفي : يهتم هذا البعد بالميكانيزمات والعمليات والسيرورات والأنساق التي تفسر ما يقع وراء الظاهر. وتنبثق هذه المعرفة عن السؤال كيف يشتغل هذا الشيء وما هي وظيفته؟
البعد التطوري : وتنبثق هذه المعرفة عن سؤال المآل أي كيف يصير هذا الشيء ؟ وإلى أين يقود؟ ويفترض هذا السؤال أن الشيء المراد معرفته يخضع إلى تغيرات ، أي يتحول ويتطور حسب ظروف متغيرة مثل الزمان والمكان والسياق . ويهتم التساؤل خاصة بالتجليات المختلفة لظاهرة معينة تحت تأثير الأفعال والتأثيرات التي تمارس عليها.

في الواقع لم يتمكن الإنسان، منذ ظهور التوجيه في بداية القرن العشرين، من اعتماد هذه الأبعاد الثلاثة في نفس الآن في تفسيره للعالم وإنتاجه للمعرفة ، بل تدرج في ذلك عبر مراحل ، إذ ارتكزت المعرفة في النصف الأول من القرن العشرين على البعد الأنطولوجي ، حيث انصب الاهتمام أكثر على وضع تعارف لكل شيء . لذلك أضحت كل الحقائق محصورة في تعارف شكلت الأسس الثابتة للمعارف والاعتقادات . وبذلك ساد الاعتقاد أن معرفة الإنسان للشيء تكتمل حينما يسميه ويصف طبيعته ومكوناته. وتعتبر هذه المعرفة قطعية ونهائية، كون التعريف يعبر عن حقيقة الشيء الخالدة. وقد أنتج هذا الأسلوب في إحاطته للعالم ، معرفة أمنت استقرار المجتمع وحافظت على تراتبيته وسلطته . وساهمت هذه الطرق في الإدراك والفهم وإنتاج المعرفة في خلق مجتمع توافقي ذي البعد الواحد على حد تعبير هربرت ماركوس .

عملت المدرسة في هذا العصر من جانبها على تكريس هذا النوع من التفكير والإدراك والتفسير ، حيث سعت من خلال برامجها ومناهجها وأساليب تقويمها على تمرير تلك التعارف والمفاهيم الجاهزة وتقييم مدى استيعابها من خلال امتحانات زجرية تهدف إلى مراقبة مدى مطابقة إنتاج التلاميذ للنصوص الرسمية والمقررات المرخص لها من طرف السلطات التربوية. هكذا شكلت إذن المحتويات الجاهزة والمطلقة محور العملية التربوية .
من هذا المنطلق وعلى هذا الأساس انبثق النموذج الأول للتوجيه الذي سعى إلى مطابقة الفرد مع مواصفة الشغل، حيث كان الاعتقاد السائد حينئذ أن معرفة السمات والعوامل المرتبطة بالشخص تشكل حقائق ثابتة ودائمة تؤمن صلاحية الاستشارة التي يقدمها خبير يدعى الموجه. إذ يعمل هذا الخبير على معرفة الفرد وخصائصه المتعلقة بشخصيته واهتماماته ومؤهلاته من خلال استمارات واختبارات بسيكومترية ، ويقابل هذه الخاصيات بجانبية الشغل التي تعتبر أيضا ثابتة ، ويصدر مشورته التي تتعلق بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب . إن الفكرة السائدة حينئذ أن كل فرد له مكانة محددة في المجتمع تحددها آليات الانتقاء في التوجيه . وتفترض أن الفرد مطالب بالانخراط في القيام بهذا الدور المحدد له مدى الحياة . ويعتبر الفرد في هذه الممارسة موضوعا للتوجيه وليس معنيا وفاعلا في تحديد مصيره ، وبالتالي لا مكانة للاختيار والتعبير عن محتويات ذاتية ووجدانية التي لم تعمل لا المدرسة ولا المجتمع على انبثاقها.

بقدر ما سعى المجتمع إلى تطويع الأفراد للحفاظ على استقراره وسلطته وإديولوجيته، بقدر ما انتبه الأفراد منذ الستينات من القرن الماضي إلى اكتشاف سلطة التعبير الشخصي وإمكانية توظيف المجتمع لأغراضه الشخصية. لقد انتقل الفرد إلى وضعية المعني الذي يجرب ويكتشف ويختار، وبالتالي أضحت المعرفة تنبثق أيضا عن التجربة الشخصية، حيث صار الفرد مدعوا للتعبير عن وجهة نظره بناء على ما يدركه ويختبره . لقد أضحى المنع غير ممكن, بل ممنوعا تحت تأثير تطور المسلسل الديموقراطي والتطور العلمي والتكنولوجيات الجديدة للإعلام . إذ لم يعد ممكنا هيمنة وقبول التفسير الوحيد والقطعي، بل انبثق عن ذلك تعددية في التفاسير والتعابير وأضحت السلطة للخيال والمبادرة والإبداع . في هذا السياق برز الاهتمام أكثر بالجانب الوظيفي للأشياء عوض التركيز على المحتويات الأنطولوجية ، وبرز معها سؤال الكيف : كيف تتطور الأشياء وتتحول وكيف ندرك هذه الأشياء وكيف نتعلم و ينمو الذكاء والشخصية و كيف ننظم أساليب ومنهجية اشتغالنا؟ وكيف نختار ونتخذ القرار ؟ وكيف نكون ونصير؟ . هكذا انصب الاهتمام على الميكانيزمات والسيرورات والمراحل التي تفسر ما يقع وراء الظاهر . لقد أضحت المعرفة تنبثق عن اكتشاف البعد الوظيفي للشيء و يتطلب ذلك دعم التحكم في السيرورات والمناهج أكثر من تملك المحتويات. . لقد ساد الاعتقاد إذن أن النتائج الجيدة تنبثق عن المنهجية الجيدة.

على هذا الأساس عملت المدرسة على إعادة تعريف مهامها ومحتويات برامجها ومناهجها لتتمحور حول الإنماء الكامل للشخص والسيرورات والمراحل التي تحدد نمو ذكائه وشخصيته وتعلمه، لذا دعته إلى المشاركة والتعبير لإيقاظ الرغبة لديه للتعلم والاكتشاف باعتبارهما سيرورات تستلزم انخراطه في قيادة مراحل بنائها وإنمائها.
عرف التوجيه أيضا تحولا في منظوره للأمور في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي ، حيث انتقل من التركيز على محاولة مطابقة الفرد مع العالم القائم ، إلى إدراج إجراءات التوجيه ضمن التطور والنمو الشخصي للفرد . هكذا ارتكز التوجيه أساسا في هذه المرحلة على السيكولوجية المعرفية والسيكولوجية الإنمائية التي أفرزت نماذج لإنماء الميول المهنية ، التي تتشكل من سيرورات ومراحل تقود إلى نضج الاختيار واتخاذ القرار في التوجيه . إن المبدأ الذي ساد في هذه المرحلة أن الفرد يمتلك بداخله كل ما يمكنه من توجيه ذاته ، و أن كل ما يحتاجه هو مساعدته على إبراز ميوله وإمكانياته الكامنة وخلق وضعيات تمكنه من تحديد شكلها والتعبير عنها والوعي بها . في هذا الإطار قد ناد «كارل روجرز» حينئذ باعتماد المقاربة اللاتوجيهية إيمانا منه في القدرات الذاتية للإنسان و التطور التلقائي للشخصية . هكذا برزت السيكولوجية ذات النزعة الإنسانية ، التي اعتبرت حينئذ القوة الثالثة بعد التحليل النفسي والسلوكية ، وتتمحور هذه السيكولوجية حول تحيين الذات والطاقة والإمكانيات الكامنة في دواخل الإنسان . وقد تميزت خصوصا بمنظورها الإنساني للتلميذ»ة» حيث تعتبره كائنا فريدا يستلزم احترام أصالته وخصوصيته وفردانيته وتاريخه الشخصي وطموحاته العميقة . وبناء على ذلك فإن النشاط اللاتوجيهي لا يسمح بتمرير محتويات إلى الفرد بل خلق وضعيات تمكنه من التوظيف الأقصى لطاقاته لبلورة طموحاته وتطلعاته والتعبير عنها وتحقيقها.

في هذا السياق أضحى توجيه الفرد معناه إرجاع هذه المسؤولية إليه نفسه ، لأنه في وضع أحسن يمكنه من معرفة ذاته و اهتماماته وميوله وإمكانياته . لذلك أصبح منطق الاستشارة في التوجيه والمقابلة الفردية والتربية على الاختيار ينبني على منح الفرد مكانة المعني الذي يمتلك كل المقومات لتحقيق ذاته. وتتمثل هذه المقومات في قدرات إنمائية حددتها عدة دراسات في نماذج وسيرورات ومراحل التي تؤطر النمو الكامل للشخص بما فيه نمو الميول المهنية وإنماء كل الجوانب المرتبطة بالاختيار في التوجيه .
ارتكز التوجيه إذن في السبعينات والثمانينات أساسا على نماذج إنمائية تتشكل من سيرورات مرتبطة بمختلف المراحل التي تستوجبها إجراءات نمو الميول المهنية . لذا شكل نضج هذه الميول والاهتمامات هدفا وركيزة لبرنامج التربية على الاختيار ، التي بدت حينئذ مقاربة ناجعة ، كونها مبنية على أسس سليمة ومبررة ببعدها التربوي والوقائي الذي يسعى إلى تسليح وتأهيل التلاميذ للاختيار واتخاذ القرار في التوجيه وفي الحياة . هكذا أضحى الاختيار الجيد ، في هذه الممارسة ، ينبثق عن إعداد جيد يقود إلى نضج الميول والاهتمامت الدراسية والمهنية.

ومجمل القول فإن البراديكم الأنطولوجي قد فرض محتوياته الجاهزة والقطعية في بداية القرن الماضي ثم فرض بعد ذلك البراديكم الوظيفي سيروراته الفعالة . إلا أن البراديكم الأول واجه رفضا واسعا في ما بعد ، نظرا لدوكمائيته التي لا تساير التغيير والتطور الحاصل في الواقع ، في حين أن البراديكم الثاني الذي أهمل المحتويات واهتم أكثر بالسيرورات والميكانيزمات ، قد طرح مسألة المعنى والاتجاه ، أي إلى أين يقود هذا؟ كما طرح مسألة الجدوى سواء بالنسبة للفرد أو بالنسبة للمجتمع .
انصب الاهتمام في العصر الحالي على البحث عن إجابات لسؤال المآل وسؤال الجدوى: إلى أين يقود هذا ؟ وكيف يصير ؟ وما الجدوى من ذلك؟ لقد برز البراديكم التطوري إذن من صلب هذه الأسئلة ، حيث سعى إلى التكيف مع هذا الواقع المتحول وأسس لتفكير وتفسير مفتوح على التغيير يروم إيجاد إجابات مفتوحة على أسئلة مفتوحة .

إن القناعة السائدة اليوم تتمثل في أن الواقع ليس فقط متغيرا بل فإن التغيير أضحى واقعنا . إن التغيير يشمل كل شيء حولنا ، يشمل العلوم والاقتصاد والمجتمع والمناخ . بل أضحى التغيير شعارا اجتماعيا وسياسيا وتربويا ، كونه أصبح قيمة في حد ذاته . لذا شكل موضوع معارفنا النظرية والعملية بل أفقا لطموحنا لصياغة أجوبة لأسئلة ملحة تتعلق بكيف نكون وكيف نصير ؟ وكيف نحين باستمرار ذواتنا ومعلوماتنا عن المحيط وعن أنفسنا، لنتمكن من اختيار أسلوب مشاركتنا في هذا العالم ؟
لم يعد ممكنا الآن حصر هذا الواقع الغامض والمعقد والمتغير في مصطلحات وصيغ ومفاهيم ثابتة وقطعية ، كونه عالم يتحول تحت تأثير الفعل المتجدد ، ولا يمكن معرفته إلا من خلال الفعل ورد الفعل . هكذا أضحت المعرفة مرتبطة بالفعل : أعرف الشيء وأكتشفه أكثر حينما أفعل فيه وأحتك به وأختبر مختلف مظاهره والظواهر المرتبطة به . وتتطلب هذه المعرفة الناتجة عن الفعل تناول الشيء من كل أبعاده وفي مختلف الظروف والوضعيات والسياقات . إذ ينبغي تناول الشيء في السياق الموجود فيه ، مع استحضار مسلمة تعقده وتعدده عوض تجريده وانتزاعه من واقعه. ليس المهم اليوم تعريفه والوقوف على ماهيته فقط بل إدراك التغييرات والتحولات والتطورات التي تحدث له والمآل الذي يؤدي إليه . إننا في خضم سرعة التحولات مما يحتم اعتماد مفاهيم مفتوحة تترك مكانة لتداعيات وانعكاسات غير متوقعة ، ومما يحفزنا على أن نتحدد باستمرار من خلال التحولات والإبداعات والأحداث التي نحدثها أو التي تطرح نفسها على تفكيرنا وتثيرنا و تسائلنا.
يتميز العصر الحديث أيضا بالاستعجال في إيجاد حلول سريعة وفعالة لوضعيات متجددة من خلال الفعل الآني والفعال . لم يعد الاستعجال وضعية طارئة بل أضحى أسلوب حياتنا . وبالتالي لم يعد هناك زمن للتفكير وزمن للفعل ، بل نعرف ونتعرف من خلال الفعل ، إذ أضحى الفعل معرفة . إن وضعية الاستعجال التي يوجد عليها العالم تقتضي منا تحيين معلوماتنا عن آخر تجليات الشيء الذي يتغير من أجل امتلاك القدرة على الفعل الملائم . لذا أضحت المعلومة معرفة مفتوحة على التحيين الدائم .

في هذا السياق برزت المقاربة الموجهة باعتبارها مقاربة جديدة في التوجيه توافق تفكير وحركية هذا العصر . وتتميز هذه المقاربة بكونها مفهوما مفتوحا على السياقات والأوساط والتطورات التي يعرفها كل محيط . ليست إذن نموذجا محددا ومحصورا في تعارف تامة ومنتهية ، بل تندرج في إطار إجراءات مفتوحة على المستجدات والمتغيرات المرتبطة بدينامية الفرد والمحيط والسياقات . في هذا الاتجاه أضحى توجيه الفرد معناه البحث عن اتجاه عام ينتج عن قراءة متجددة ومحينة باستمرار عن وضعيته ، حيث يبني الفرد قراراته في التوجيه تبعا لتجاربه والسياقات التي تحيط بوضعيته. يهدف التوجيه إذن إلى إعداد الفرد إلى عالم تكويني ومهني واجتماعي مفتوح ومتغير بتغيير الوسط والسياقات. في هذا الإطار فإن المقاربة الموجهة تتوافق مع هذا الواقع المتغير والمتعدد الذي يفرض تفكيرا معاصرا يستوعب المستجدات ويساير المعلومة الجديدة التي تمكن من امتلاك قدرة عالية على التكيف والتموقع الاستراتيجي الملائم . إن التعرف عن الذات ، من منظور المقاربة الموجهة ، تعني اكتشافها من خلال الفعل والاحتكاك بالأوساط والسياقات ومن خلال رفع تحديات عبر وضعيات متنوعة تتطلب الفعل وإعداد الذات وتعبئتها . كما أن فهم عالم الشغل يعني استيعاب حركيته واتجاهاته ومتطلباته المتجددة وفضاءاته من خلال معاينة ومواكبة تجليات ذلك في الواقع المعيش . ويعني النجاح المهني إيجاد أوساط الشغل والسياقات التي تمكن الفرد من توظيف كفاياته واهتماماته وتطويرها سيما تطوير مهاراته التكيفية و»السياقية «إذا صح التعبير.

ومجمل القول إن البراديكم التطوري يمنحنا اليوم المفتاح لفهم حاجات الشباب في التربية وفي التوجيه. إنهم يرغبون في التواجد في أوساط الفعل ليتمكنوا من الوقوف على التطور الحاصل في الواقع و فهمه ، ويرغبون في التواجد في السياقات المؤطرة للفعل ليتمكنوا من كشف واكتشاف ذواتهم وتحيينها . إنهم يرغبون في ملاحظة أوساط العمل في الواقع الملموس من خلال المشاركة في تداريب داخل مؤسسات الإنتاج ، ويشاركون في أيام تكوينية حول عالم الشغل والتكوين والمهن وحول القيم والكفايات التي يتطلبها الاندماج والتكيف والفعل في هذا العالم المتحرك . ويتطلعون إلى مدرسة متصلة بهذا العالم المتحول لا مفصولة عنه ، مدرسة موجهة تقوم بوظيفتين متزامنتين ومنصهرتين ، وظيفة التربية والتكوين ووظيفة التوجيه المنفصلين في الممارسة التقليدية الجارية. ولا تعني وظيفة التوجيه فرض الاختيارات أو التأثير عليها ، بل عكس ذلك تماما ، تعني هذه الوظيفة تحرير التلاميذ من الاختيارات النمطية السائدة ومن الجهل السائد في المدرسة عن العالم الخارجي وعن مستجدات العصر ومحدداته وعن احتمالات وتنبؤات عن المستقبل والمآل.

تتوفر المدرسة الموجهة ، في مقابل ذلك ، على برامج ومناهج تدمج أهداف التوجيه بأهداف التعلم ، وتتمثل أهداف التوجيه في جعل التلميذ يتعرف على ذاته ومقوماتها والتعرف على عالم التكوين وعالم الشغل ، ويمتلك كفايات تمكن من القدرة على وضع اختيارات واتخاذ قرارات تنتج عن احتكاك وتفاوض واع وممفهم بين الفرد والمحيط الدراسي والمهني . كما تقتضي المقاربة الموجهة دمج هذه الكفايات ، خاصة الكفايات الأفقية، في قلب التعلمات، حيث يتمرن التلميذ على ممارستها عبر الدروس التعليمية والأنشطة الموازية ليتملكها بل تصبح قابلة للتوظيف والنقل في وضعيات أخرى داخل المدرسة وخارجها . وتتمثل هذه الكفايات في القدرة على معالجة المعلومة وحل المشكلات والقدرة على الاختيار الملائم وإنتاج وخلق الجديد والتعود على الاشتغال حسب منهجية علمية لبناء المعارف والتجارب ومفهمتها ، والقدرة على التواصل بفعالية والتعاون وممارسة القيادة ، وامتلاك القدرة على التعرف على الذات والاعتراف بها وتأكبدها وتأكيد هوية خاصة.
إن ممارسة الكفايات الأفقية في التعلمات تمنح تلميذ اليوم إذن فرصا متنوعة ومتكررة لبناء هوية خاصة ، أي امتلاك قيم ومواقف يتعلم من خلالها كيف يكون وكيف يصير ، حيث ينتقل إلى شخص معني يفكر بشكل احتمالي واستراتيجي ويفعل ويتصرف من تلقاء ذاته في هذا الإطار الاستراتيجي ، ويتحول إلى ناقد ومسؤول و مستقل ومدبر واستراتيجي ومبادر ومبدع ومنهجي واجتماعي ومفكر .
هكذا ستتمكن المدرسة الموجهة من إعداد التلميذ للحياة المعيشة بشكل عام والحياة الدراسية والمهنية بشكل خاص ، لكونها مجالات لتحقيق الذات وتفتحها وتحرير طاقاتها وفرصة للفرد للإتيان بمساهمته في تحويل محيطه وتشكيله ، وفرصة للتعبير عن أسلوبه في رسم ملامح مستقبله . إن أحسن طريقة لمنح أبنائنا هذه الفرصة تتمثل في ردم دعائم المدرسة التقليدية المنغلقة على الماضي العتيق، وإرساء دعائم المدرسة الموجهة المنفتحة على العصر وعلى المستقبل وعلى المآل ،مدرسة لها معنى ومنفتحة خصوصا على حاجات التلاميذ المتجددة واهتماماتهم وتعابيرهم الذاتية وتطلعاتهم وأحلامهم . ويبدو أن أحسن وسيلة لفهم أبنائنا تتمثل في قدرتنا على استيعاب عقلية هذا العصر ، كون « طفلك ليس ملكك ، إنه ابن زمانه» هكذا تحدث كنفوسيوس منذ زمان .

المراجع :

_ Denis Pelletier : L?Approche orientante : LA Clé de la réussite scolaire et professionnelle. Septembre éditeur ; 2004 Québec.
_ Charle Bujold : Choix professionnel et développement de carriére .Théories et recherches .gaetan morin éditeur ; 1989.
_ Denis Pelletier , Raymonde Bujold et coll.(1984) . Pour une approche éducative en orientation,Chicoutimi,Gaétan Morin éditeur.

بقلم : المختار الشعالي