انحصر الدور الأساسي للمدرسة في تسهيل اكتساب مجموعة من المعارف في مجالات متنوعة، حيث ساد الاعتقاد أن امتلاك معرفة عن كل شيء يمكن الأفراد من النجاح في الحياة. لقد تعرض هذا المنظور منذ مدة لانتقادات متعددة. وتتمثل أهم هذه الانتقادات في كون عدد كبير من خريجي هذا النظام يعانون من نقص كبير في التمكن من الكفايات الأساسية التي تمكنهم من التكيف ومواكبة مجتمع يعرف تغييرات سريعة. كما أنهم لا يدركون العلاقة بين ما يتعلمونه في المدرسة وما سيقومون به في الحياة بعد تخرجهم من النظام التعليمي. وعليه تعتبر الدروس التي تعطى لهم غير مرتبطة بحاجاتهم وغير ملائمة لمتطلبات الحياة، وبالتالي فإنها غير محفزة على التعلم. إضافة إلى ذلك يلاحظ أن التفكير في النجاح في الحياة المدرسية والتفكير في النجاح في الحياة المهنية في المستقبل يحدثان في أوقات منفصلة، حيث لا يتم التفكير في المستقبل إلا أثناء عتبات التوجيه أو بعد نهاية التمدرس، إذ يجد الفرد نفسه أمام نقص كبير في معرفة ذاته وحاجاته واهتماماته ومعرفة الإمكانات المتوفرة في محيطه والتطورات الحاصلة فيه، ونقص في تراكم تجارب وقدرات وخبرة في بلورة مشروع في التوجيه وفي الحياة . وهكذا يبدو أن تجربة الحياة المدرسية لا تفيد في الإعداد للمستقبل، بحيث لا تتحمل المدرسة مسؤوليتها في مساعدة الأفراد على التخطيط لمستقبلهم، ولا يتدربون على توظيف مهاراتهم في التخطيط وتحويل أمانيهم إلى مشاريع والتمرن على اعتماد استراتيجيات لتحقيق طموحاتهم، وبلورة خارطة طريق للولوج إلى الحياة العملية. ويترتب عن ذلك أن كثيرا من الاختيارات في التوجيه تتخذ بناء على معطيات واهية تنحصر في معايير نمطية أو تحت تأثير الحتميات الاجتماعية والاقتصادية أو عن طريق الصدفة، وفي سياقات غير ملائمة تماما. وقلما تؤخذ هذه القرارات بناء على إعداد كاف، وفي سياقات تمكن من الوعي بالمحددات الذاتية والموضوعية المرتبطة بالاختيار، وبلورة هذه المحددات وتوضيحها ومفهمتها. وينتج عن غياب هذا الوعي والإعداد اتخاذ قرارات في التوجيه خاطئة أحيانا كثيرة. وأعتقد أن التوجيه الخاطئ يشكل أكبر هدر للموارد البشرية، ويكفي إلقاء إطلالة على مردودية كثير من الناس وجدوا صدفة في مهنة لا تلائمهم، إذ أضحت وبالا عليهم عوض أن تشكل فضاء للإبداع والتعبير وتحقيق الذات ومجالا لمتعة الانتماء والإنجاز وعشق العمل والحياة.
من هذا المنطلق ينبغي بالضرورة أن تهتم المدرسة بتوضيح مشاريع التلميذ ومرافقته قصد بلورة اختيارات في التوجيه تلائم شخصيته وإمكانياته، حيث تتفتق طاقاته وتتفتح مواهبه، وحيث ينمي إمكانياته وإمكانيات مجتمعه في نفس الآن. إن الأمر يتعلق إذن بالتفكير في كيفية إعداد الشباب للمستقبل وكيفية تأهيلهم ليتمكنوا من مواجهة الصعوبات التي تطرحها مسألة الاختيار واتخاذ القرار في التوجيه وفي الحياة، باعتبار أن الفرد سوف لا يواجه مشكلات التعلم فحسب بل سيواجه أيضا مشكلات الاختيارات المتعلقة بالمآل والمصير.
لم تكن فيما مضى مسألة التفكير في المآل والمستقبل تطرح كإشكال، نظرا لأن المستقبل كان واضحا ويمكن قراءته انطلاقا من الحاضر، كون المهن كانت متباينة وقارة وواضحة والأدوار والكفايات المطلوبة كانت أيضا محددة وشبه مستقرة. وكان الولوج إلى هذه المهن يتم في غالب الأحيان تحت تأثير الحتميات الاجتماعية أو قوانين الانتقاء داخل مختلف المؤسسات.
أما اليوم فإن الأمر مختلف، حيث يتميز المجتمع الحديث بالتعقد وبسرعة التحولات ووفرتها وخصوصيتها المتمثلة في تنامي تعقدها، جعلت المستقبل معطى غير واضح الملامح ولا يمكن توقع مجرياته انطلاقا من معطيات الحاضر فقط، كونه أضحى مرتبطا بعالم سوسيو ثقافي واقتصادي جديد يتشكل من حولنا، إذ أن التقدم العلمي والتطور التكنولوجي أحدث انقلابا جذريا في عالم المهن وظروف العمل، لقد حول هذا التغيير الفضاءات داخل المعمل والمكتب وأقام علاقات جديدة وأعاد بناء الخدمات وأنشأ مهنا جديدة وألغى أخرى وفرض كفايات متجددة باستمرار.
يقتضي هذا الأمر إذن إعداد شبابنا للانخراط في هذا المحيط السوسيو- ثقافي والاقتصادي الجديد قصد اكتشافه واستيعابه وإعادة بناءه من أجل إيجاد مكان داخله. حيث أصبح الفرد (مثله مثل المجتمع) في حاجة إلى التفكير بجدية في المستقبل واستباق المآل وتوقع التطورات الممكنة التي ستنعكس لا محالة على المصير. إن الرغبة في معرفة التحولات المستقبلية والإرادة في مراقبتها من أجل الإعداد لها، أضحت حاجة ملحة بل قلقا يحفزنا على إعادة النظر في تعاملنا وعلاقاتنا بالمستقبل، سيما أن ثقافتنا واستهلاكها ما زالا يعيشان على إيقاع الحاضر دون ربطهما بمستقبل محتمل. ويمكن أن يشكل إدماج ثقافة الاهتمام والانشغال بالمستقبل وبالمصير وبالتوجيه داخل مؤسساتنا التربوية إجابة ممكنة لمواجهة هذا التعقد ومواكبة هذه السرعة في تطور المحيط، حيث يشكل التوجيه آلية للتفكير واستيعاب واحتواء هذه الحركية المتصفة بالغموض والاحتمالات.
يعتبر التوجيه من هذا المنظور إشكالية معقدة ، حيث يقع في تلاقي ديناميتين : دينامية تطور الفرد ودينامية تطور العالم السوسيو اقتصادي. إنه من جهة آلية لمواكبة النمو الحاصل لدى الفرد من حيث مؤهلاته واهتماماته وحاجاته وقيمه وميولاته واختياراته الدراسية والمهنية، وإنه من جهة أخرى نافذة على العالم الخارجي وعلى المستقبل، حيث يمكن المدرسة من الإطلالة على التطورات الحاصلة في المحيط وإدراكها ومواكبتها.إنه إذن آلية للتفكير وطرح وفتح النقاش داخل المدرسة حول مسألة المآل والمصير سواء على مستوى كل فرد أو على مستوى الجماعة، وذلك عبر تنمية قدرات على تحليل وفحص المعطيات حول الذات وحول المحيط، وقدرات على التنبؤ واستشراف المستقبل ووضع وصياغة السيناريوهات والاحتمالات المستقبلية الممكنة. والعمل على إيقاظ الرغبة لدى المتعلم في الاهتمام بالمستقبل، وتسليحه بكل الوسائل والأدوات والمعارف والكفايات التي تمكنه من مواجهة الصعوبات والغموض الذي تحيط بكل اختيار في التوجيه وفي الحياة .
إن عددا كبيرا من التلاميذ لا يهتمون بتوجييههم نتيجة غياب رؤية واضحة عن المستقبل. فالفكرة التي توجد لديهم عن المستقبل تمنعهم من تصور مشاريع حيث يعتبرونه غير قابل للمراقبة والتحكم والتنبؤ. إذ أن الإحساس بهذه القدرات الشخصية يبدو منعدما ولا سيما لدى التلاميذ المنحدرين من الأوساط المستضعفة كونهم حبيس بنية ثقافية واجتماعية عتيقة تروج للقدرية والاتكالية والتبعية والحتمية التي تشدهم إلى البقاء في مواقعهم التقليدية. ومن المفترض أن تتدخل المدرسة وخدمات الوجيه لجعل التلميذ يتخلص من ثقل هذه البنيات ويقوي قدراته واعتقاده في إمكانية تغيير وضعيته والتحكم في مصيره الذي يريده لنفسه. فالإحساس بامتلاك هذه القدرات ستمكن التلاميذ من تقدير الأهداف التي يحددونها لأنفسهم، وستقوي العلاقة بين الشخص ومشروعه المستقبلي، إن هذه العلاقة هي التي ستعطي، إلى حد ما، تعريفا لمعنى التوجيه. وبدون هذا التقارب يصبح التوجيه إجراءا بسيطا يخضع الأشخاص إلى توجهات عالم الشغل وإلى قوانين الانتقاء داخل مختلف المؤسسات.
إن الأسئلة التي تطرحها إشكالية توجيه الأجيال الصاعدة تتعلق بالاهتمام والتساؤل والانشغال بما سيقوم به الفرد في حياته في الحاضر وفي المستقبل، إنها إشكالية اختيار الأدوار والوظائف التي ستمكن الفرد من الإتيان بمساهمته الأصيلة في تطوير مجتمعه وتطوير ذاته في نفس الآن. ولا يمكن مواجهة هذه الإشكالية المعقدة من خلال مدرسة ينحصر دورها في ترويج لمعارف مدرسية قارة ومنفصلة عن التحولات الواقعة في المحيط وغير متصلة بحاجات التلاميذ المتجددة، ومن خلال ممارسة في التوجيه معزولة تتمحور حول أنشطة لحظية تجرى على هامش الممارسة التربوية والحياة المدرسية .
فإلى متى نظل نتفرج على هذا الوضع؟ وإلى متى نظل نزج بأبنائنا في مسارات دراسية ومهنية بشكل عشوائي أو بناء على معطيات مدرسية غير مؤكدة؟ متى نجعل من مدرستنا فضاء للتفكير في المآل وإعداد الأجيال الصاعدة للمستقبل؟ يبدو أن اهتمام السلطات التربوية بهذه الأسئلة ما زال مؤجلا على الأقل في المستقبل المنظور، كونها ما زالت منشغلة بقضايا كمية أو في أحسن الأحوال بمسألة تطابق التكوين بعالم الشغل، حيث يغيب كليا في هذا الانشغال حضور الفرد ودعم مشروعه الشخصي في التوجيه وفي الحياة .

بقلم : المختار الشعالي