اغتم فرصة تواجدي بينكم لأحيي الحضور الكرام، وأتوجه بالشكر والتقدير للجهات المنظمة لهذا النشاط، من أكاديمية ونقابة مفتشي التعليم وتضامن جامعي. أملي أن تكلل مساعي هذا اليوم الدراسي بالنجاح، وأن يشكل مناسبة للتفكير الجماعي في مداخل الارتقاء بالمدرسة العمومية وظائف وأدوار وخدمات، خاصة في هذه اللحظة الحرجة من زمن الإصلاح المأمول.
مداخلتي ستلامس ثلاثة مستويات أساسية:

  1. السياق العام والخاص الذي يجب أن يؤطر النقاش ويوجه التفكير حول المسالك الدولية ومسالك البكالوريا المهنية؛
  2. رهانات إرساء المسالك الدولية ومسالك البكالوريا المهنية في النظام التربوي المغربي؛
  3. الإشكالات والإكراهات التي يجب التصدي لها في المرحلة المقبلة، ومداخل التطوير والتحسين الممكنة.

اسمحوا لي، قبل الدخول في تفاصيل الموضوع، أن أدلي ببعض الملاحظات المنهجية والعملية لوضع النقاش، حول المسالك الدولية والمسالك المهنية، في سياقه السوسيوتربوي والبيداغوجي:

الملاحظة الأولى:

ما سأتقاسمه معكم هو عبارة عن وجهة نظر شخصية لمهتم ومتتبع لموضوع معقد ومركب تعتمل ضمنه تصورات ومرجعيات مختلفة، وتتفاعل فيه مجموعة من المقاربات والمساطر والآفاق المتضاربة. وبالتالي، ما سأتقدم به هو عبارة عن أرضية قابلة للإغناء والتطوير من طرف الفعاليات المشاركة في اليوم الدراسي؛

الملاحظة الثانية:

الحديث عن المسالك الدولية والمهنية هو حديث في العمق عن هيكلة التعليم الثانوي بمساراته العامة والتكنولوجية والمهنية والدولية وبهندسته البيداغوجية، ومضامينه التربوية. وبالتالي، لا يمكن الفصل بين ما تحدث عنه السيد مدير الأكاديمية والزملاء الذين سبقوني هذا الصباح، وبين ما سأتحدث عنه. بالطبع، كم تمنيت أن نتطرق بداية في هذا اليوم الدراسي للهيكلة العامة للتعليم قبل المرور إلى الحديث عن بعض جوانب النموذج البيداغوجي في التعليم الابتدائي؛

الملاحظة الثالثة:

كل حديث عن المسارات التعليمية بالثانوي التأهيلي لن يكون مجديا ومفيدا إن لم يتم استحضار ما ينجز في التعليم الإعدادي والابتدائي بمساراتهما المختلفة والتعليم العالي بهيكلته وهندسته البيداغوجية. أقول ذلك على اعتبار أن حلقة التعليم الثانوي هي حلقة وسطى بين التعليم الإعدادي والتعليم العالي؛ حيث تستمد مدخلاتها من التعليم الإعدادي وتمد التعليم العالي بمخرجتها بعض خضوعها لسيرورات التحول في أبعادها التأهيلية والتخصصية. وبالتالي، وضمن مقاربة سوسيولوجة، ربما المشاكل التي يعرفها التعليم الثانوي التأهيلي، تتجاوز التعليم الثانوي لتستمد جذورها من التعليم الثانوي الإعدادي أو الابتدائي ونفس الشيء بالنسبة للتعليم العالي، وهنا تتناسل الأسئلة، بأي جانبيات يتم الالتحاق بالسلك الثانوي التأهيلي؟ وضمن أي هيكلة؟ وكيف تدبر الانتقالات التي يعيشها التلميذ؟ علما أن الانتقال اليوم لم يبق مقتصرا على أسلاك التعليم وإنما أصبح انتقالا يمر عبر مراكز ومعاهد التكوين المهني والمقاولات ووحدات الإنتاج التابعة لها والحياة الاجتماعية بشكل عام.

في السياق العام والخاص الذي يجب أن يؤطر النقاش ويوجه التفكير حول المسالك الدولية والمسالك المهنية

السياق العام :

في سياق العولمة التي حولت العالم إلى قرية صغيرة تلاشت فيها الحدود والحواجز في مختلف المجالات، وفي ظل بروز حركية سوسيومهنية مستمرة مؤدية إلى ظهور مهن جديدة واندثار أخرى بسرعة، قد يعجز أي نظام تربوي وتكويني عن مسايرتها في كثير من الأحيان. وأمام التحولات والتغيرات الرهيبة على مجموعة من الأصعدة سواء المعرفية أوالتكنولوجية أوالرقمية أو الخدماتية… أصبح المغرب مطالبا، أكثر من أي وقت مضى، إن هو أراد أن يكسب رهانات التنمية ويرفع التحديات الاقتصادية التي ستواجهه مستقبلا، أن يعمل على إعداد وتأهيل الرأسمال البشري لإقداره على الانخراط في مسارات التنمية السوسيواقتصادية… مما يفرض وبإلحاح، ضرورة جعل خدمات التربية والتكوين مستجيبة لمقتضيات الجودة الشاملة، ومواكبة لأولويات الأوراش الواعدة، وللمخططات الإستراتيجية لمختلف القطاعات الحكومية. حيث غدا لزاما، وأكثر من أي وقت مضى، إعادة النظر في هندسة النظام التربوي وظائف وأدوار وآليات و مسالك وجسور… لضمان موقع في هذا النظام المتحول على مجموعة من الأصعدة، ولتسهيل حركية الأفراد عموديا وأفقا بين أنظمة التربية وأنظمة التكوين وأنظمة الشغل ليس فقط على الصعيد الوطني وإنما على الصعيد الدولي كذلك.

السياق الخاص:

إن التفكير في إرساء وتوسيع العرض التربوي عبر المسارات الدولية والمهنية يجب أن يتم من داخل التدابير ذات الأولوية وضمن الرؤية الإستراتيجية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، علما أنه في هذه النقطة بالذات إذا كان يحصل الاتفاق على إرساء وتطوير المسالك المهنية في منظومة التربية والتكوين، فإن التمايز بين منظور التدابير ذات الأولوية ومنظور الرؤية الاستراتيجية للمجلس، يبقى واردا بخصوص “المسالك الدولية”، حيث أشار المجلس إلى ضرورة العمل من خلال آلية “التناوب اللغوي” كاختيار بيداغوجي يستثمر في التعليم المزدوج أو المتعدد اللغات، وذلك بتعليم بعض المضامين والمجزوءات في بعض المواد باللغة الأجنبية. في حين تطرح الوزارة الوصية مسألة التدرج في تدريس المواد العلمية بلغة الخيار خاصة بالنسبة للإنجليزية والإسبانية، على أن تدرس كليا بهذه اللغة في نهاية الأسدوس الثاني من السنة الثانية من سلك البكالوريا. هذا مع العلم أن المسالك الدولية بخياراتها اللغوية هي سابقة عن رؤية المجلس، تم تنزيل بعض خياراتها في عهد الوزير محمد الوفا في الموسم الدراسي 2013 – 2014 وتم توسيعها مع الوزير الحالي لتشمل خيارات أخرى، بالإضافة للشروع برسم الموسم الدراسي 2014 – 2015 في إرساء مسالك مهنية بشراكة مع بعض القطاعات المكونة ومكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل.

في رهانات إرساء المسالك الدولية والمسالك المهنية في النظام التربوي المغربي:

إحداث المواءمة بين أنظمة التربية والتكوين وسوق الشغل: وذلك عبر توفير مستلزمات إنجاح رهان الأوراش الواعدة التي ينخرط فيها المغرب، كبرنامج إقلاع للنهوض بالصناعة المغربية،ومخطط المغرب الأزرق لتطوير السياحة، ومخطط المغرب الأخضر لتطوير الفلاحة، وبرنامج تطوير وإنتاج الطاقات المتجددة، واستراتيجيات المغرب الرقمي لتطوير مجتمع المعلومات والاقتصاد الرقمي، بالإضافة لباقي مخططات القطاعات الحكومية، من خلال تطوير الكفايات المهنية المطلوبة في سوق الشغل وتعزيز القدرات التواصلية باللغات الأجنبية، وتيسير الاندماج الجامعي والسيواقتصادي.
إحداث الاندماج بين قطاع التربية الوطنية والتكوين المهني: وذلك عبر تعزيز آليات التواصل والتنسيق والتعاون في التعاطي مع قضايا التربية والتكوين، لمحاصرة بعض الظواهر المتعلقة بالهدر المدرسي والتعثر وضعف التأهيل ومشاكل الاندماج في سوق الشغل. وفي هذا الإطار تشكل المسارات المهنية التي تم تنزيلها وفق مقتضيات البكالوريا المهنية تجسيدا حقيقيا لهذا الاندماج، حيث تقوم على نموذج بيداغوجي يتأسس على ثلاث مكونات، يتم تدريس مواد التعليم العام بالثانويات التأهيلية ومواد التعليم المهني بمعاهد ومراكز التكوين المهني في حين تنتظم التداريب الميدانية بالمقاولات والوحدات الإنتاجية التابعة لها.
توسيع وتنويع العرض المدرسي: حيث بالإضافة لمسارات التعليم العام والتعليم التكنولوجي، تم استحداث مسارات دولية ومهنية موازية للهيكلة الواردة في المذكرة 43 حول تنظيم الدراسة بالتعليم الثانوي، حيث انتقلنا من أربعة جذوع مشتركة إلى 13 جذعا مشتركا ومن 9 شعبة إلى 37 شعبة ومن 14 مسلك إلى غاية 51 مسلكا، هذا إذا استقر الوضع التربوي على هذه الهيكلة في غضون السنتين المقبلتين، أما إذا تم استحداث مسارات أخرى انسجاما مع منطوق المذكرات المنظمة لإرساء مختلف المسالك الدولية والمهنية فالنظام التربوي المغربي سيسلم أكثر من 51 نوعا من أنواع البكالوريا بكل ما سيطرحه ذلك من إكراهات تدبيرية وتنظيمية ومساطر وآليات اشتغال. علما أن الهيكلة الحالية تختلف جذريا عن الهيكلة الواردة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين القاضية بالعمل بجذع مشرك واحد وجسرين، كما ورد في التقرير التحليلي للهيئة الوطنية للتقييم.
العمل بمقتضيات التجسير والتربية والتعليم والتوجيه مدى الحياة: وذلك بهدف كسب رهان استدامة تعميم المعرفة والمعلومات والتربية والتعليم للجميع، والاستثمار الأمثل في تنمية الرأسمال البشري، وإتاحة مرونة أكبر للأفراد قصد الانتقال أفقا وعموديا بين أنظمة التربية والتكوين والشغل، وفتح فرص أكبر لاستكمال مسارات التعليم والتكوين وتعميقها وتغييرها كلما دعت الضرورة لذلك.

في واقع إرساء المسالك الدولية والمسالك المهنية والإكراهات والصعوبات

واقع إرساء المسالك الدولية:

انطلقت تجربة إرساء المسالك الدولية خيار فرنسية برسم الموسم 2013 -2014 في بعض الأكاديميات في إطار التجريب الأولي، ليتم الانفتاح لاحقا على خيار الإنجليزية والإسبانية، لتدخل التجربة في إطار التوسيع التدريجي بهدف التعميم على مختلف جهات وأقاليم الوطن. ومع الموسم الدراسي الحالي، أصبحت أكثر من 245 مؤسسة ثانوية تحتضن هذه المسالك حسب معطيات الدخول التربوي التي قدمها السيد وزير التربية الوطنية والتكوين المهني . حيث تتم هذه العملية عبر مسطرة خاصة في التعليم العمومي تفتح في وجه تلاميذ التعليم العمومي والتعليم الخصوصي وفق معيار التناسبية. أما ولوج المسالك الدولية بمؤسسات التعليم الثانوي التأهيلي الخصوصي فيبقى خاضعا لدفتر التحملات المحدد لشروط فتح المسالك الدولية بمؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي وفق مقتضيات مقرر وزير التربية الوطنية والتكوين المهني الصادر في يوليوز 2014. وفي ما يلي، أهم ما رافق إرساء هذه المسالك الدولية من أسئلة:
أين يتجلي البعد الدولي في هذه المسالك الدراسية؟ وماهي آفاقها؟ وماهي امتيازاتها؟ وهل تم التفكير في شروط ومستلزمات إرسائها وتوسيعها وتعميمها؟ وهل تخضع هذه التجربة للتتبع والتقييم المنتظم؟
هل هذه الاختيارات، تنسجم وروح دستور 2011 الذي حسم في اللغات الرسمية للبلاد ؟ وما هي حدود الالتقاء والاختلاف بين ما طرحه المجلس الأعلى وما تطرحه الوزارة الوصية من تدابير في هذا الشأن؟
ألا تؤشر طريقة تنزيل المسالك الدولية عن تراجع صريح عن التعريب في الثانوي التأهيلي، نظرا للوتيرة التي تتوسع بها هذه المسالك، ومن تم وضع الأسر المغربية أمام الأمر الواقع؟ وهل الإقبال على هذه المسالك جاء نتيجة مجهودات فعلية للوزارة الوصية، أم نتيجة لطلب اجتماعي للأسر والتلاميذ لحل إشكالية اللانسجام اللغوي بين الثانوي التأهيلي والجامعات؟
هل إرساء خيارات من هذا القبيل، لا يشكل ضربا في مبدأ تكافؤ الفرص؟ ألسنا بصدد تكريس تعليم نخبوي حقيقي، بعدما تم تعليق العمل بتجربة “ثانويات التميز”، والتي طالب المجلس الأعلى في رؤيته الإستراتيجية بإعادة إحيائها في إطار نوع من ترصيد وتطوير للتجربة السابقة، والتي سبق وأن فتحت في وجه مختلف أبناء الطبقات الاجتماعية وفق معايير تراعي الاستحقاق وتضمن مبدأ تكافؤ الفرص؟
ألا تفتح هذه الخيارات الباب على مصراعيه أمام لوبيات التعليم الخصوص للذهاب بعيدا في مراجعة لغة تدريس المواد العلمية؟ وهل التعليم الخصوصي احترم شروط ومستلزمات فتح هذه المسالك؟
هل تم التفكير في التوقيت المناسب لإخراج هذه المسالك الدولية إلى حيز الوجود؟ ألم يكن من المناسب انتظار خلاصات وتوصيات مختلف الاستشارات العمومية التي عرفتها الساحة التعليمة مؤخرا، ومن تم إدماج هذه الخيارات ضمن منظور استراتيجي للإصلاح متوافق حول ضوابطه ومبادئه وفلسفته، عبر تصريف مقتضيات القانون الإطار الموجه للإصلاح التربوي ؟.

واقع إرساء المسالك المهنية:

شكل الدخول التربوي 2014 – 2015 بداية لتفعيل إرساء المسالك البكالوريا المهنية، حيث شملت العملية في البداية كلا من القطاع الصناعي والقطاع الفلاحي في محور الدار البيضاء- الرباط – طنجة تطون، ليتم توسيع ذلك تدريجيا في غضون الموسم الدراسي الجاري ليصل لحدود 19 مسلكا مهنيا موزعة على 12 مسلكا في القطب الصناعي و 6 مسالك في القطب الخدماتي ومسلك واحد في القطب الفلاحي، وفق خريطة مهنية استشرافية همت مجموعة من جهات وأقاليم المملكة، تم تحديدها من خلال منهجية تشخيصية لحاجيات المهنيين والفاعلين الاقتصاديين، بحيث لأول مرة يتم استحداث مسالك انطلاقا من الخصاص الذي يعرفه سوق الشغل وانتظارات الأوراش الكبرى التي ينخرط فيها المغرب، وذلك بمشاركة والتزام تام بين مختلف الشركاء والمتدخلين من وزارة وصية ومكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل وقطاعات مكونة ومهنيين .

وللتذكير، فإن هذا التوجه التهميني قديم في نظامنا التربوي، حيث إلى حدود الثمانينيات من القرن الماضي، كان نظامنا التربوي يسلم “دبلوم التقني المغربي”، وكانت مؤسساتنا التعليمية تؤهل التلاميذ لممارسة بعض المهن والانخراط في بعض الحرف البسيطة، وخير دليل على ذلك، هو الشكل الهندسي لبعض المؤسسات التعليمية الذي لازال شاهدا على هذه الحقبة ، ولقد شكلت مسالك البكالوريا المهنية مطلبا ملحا لمختلف الفاعلين التربويين، وعلى رأسهم أطر التوجيه التربوي، حيث كانوا غالبا ما يجدوا أنفسهم حائرين أمام ميولات بعض التلاميذ في إطار مجالس التوجيه، وخاصة أولئك الذين لا يتوفرون لا على الجانبية العلمية ولا على الجانبية الأدبية ويتمتعون بذكاء عملي وقدرات يدوية وقابلية للتعامل مع الأشياء والأجهزة، مما كان يحرمهم من فرص استكمال الدراسة في مسارات تحقق لهم المتعة وتمنحهم الحافزية الضرورية لاستكمال مشوارهم الدراسي بالتعليم الجامعي، أو إتاحة لهم فرص الاندماج الاقتصادي.

إن استحداث هذا المسار المهني في منظومة التربية والتكوين هي إلتفاتة لشريحة مهمة ليس بمقدرتها التفكير الأكاديمي المجرد الذي تتطلبه مسارات التعليم العادي والخروج من منطق الثنائيات أدبي/علمي الذي حكم مسار اشتغال المنظومة التربوية. ولإعطاء فرص أكبر لإنجاح هذه الاختيارات المهنية تم خلق مسارات التعليم المهني في الإعدادي وإرساء أنشطة استكشاف المهن في نهاية المرحلة الابتدائية و هيكلة السنوات الأربع الأولى من الابتدائي عبر منطق الأقطاب ضمن المنهاج المنقح. لكن بالرغم من هذه الاختيارات المهنية المبررة نظريا، فإن عملية تنزيل وتوطين هذه المشاريع صاحبتها اختلالات وتخوفات ، نشير لأهمها فيما يلي:
إن أكبر تخوف مطروح يتعلق أصلا بهذه النزوعات التمهينية التي تمتح من المنظورات الاقتصادوية للتعليم، والتي ترفع شعار موائمة التعليم لسوق الشغل، وكأن المدرسة مهمتها الأساسية هي الإعداد لسوق الشغل عوض الإعداد للحياة عبر إيجاد حلول ناجعة لتحديات إكساب التلميذ مناهج تحصيل المعرفة، وتعزيز مهاراته الحياتية، وتوسيع خبراته، وتطوير جاهزيته للشغل وتحقيق الذات والعيش المشترك مع الآخر، من أجل مجابهة مصاعب الحياة في ظل متطلبات العولمة… وبغض النظر، عن هذا النقاش الذي ظل مطروحا في سياق مجتمعنا المغربي، ولم نحسم فيه لحدود اليوم ، فالأمر يتعلق أساسا، في اعتقادنا، بالتسرع في تنزيل مشاريع تربوية طموحة وحيوية لبلادنا، في غياب الإعداد القبلي، والضمانات والشروط الكافية للنجاح، وبتصورات تربوية غير مكتملة وبهندسة بيداغوجية لا تضمن تكافؤ الفرص في إمكانات التوجيه وإعادة التوجيه وبمساطر إدارية غير منسجمة وغير مندمجة كفاية ضمن آليات اشتغال المؤسسة الموضوعة لهذا الغرض والمنصوص عليها في النظام الأساسي لمؤسسات التربية والتعليم العمومي، وبرؤية أحادية يعوزها الإشراك والانفتاح على فاعلين متحكمين في معادلة إنجاح أو إخفاق قرارات من هذا القبيل… نحن واعون أنها البداية، وكل مشروع في المجال التربوي، تبقى له سيرورة تعتمل داخلها إكراهات وصعوبات، وتتفاعل ضمنها فرصا وتهديدات وتخوفات. وبالتالي، فإن مشاريع من هذا القبيل ستظل منفتحة على التحسين والتطوير المتواصل،لكن الخوف كل الخوف أن يتم إفراغ هذه التجارب من عمقها التربوي والبيداغوجي والاقتصادي…، وأن يشكل ذلك أزمة انطلاقة يمكن أن ترهن مسار ومآل هذه المشاريع، وخاصة أننا وقفنا على بعض التخوفات المشروعة عند مجموعة من الفاعلين، يمكن الإشارة للبعض منها ؛

بالنسبة للآباء والتلاميذ: انطلاق مشروع إرساء المسالك المهنية ضمن إجراءات استثنائية في إطار عملية إعادة التوجيه خلق نوعا من التخوف لدى مجموعة من التلاميذ، إضافة لغياب الإيواء والإطعام والنقل في جل المؤسسات الثانوية التأهيلية المستقبلة لتلاميذ المسالك المهنية، وغموض الآفاق المهنية والجامعية، وتشتت خريطة المؤسسات والمراكز المستقبلة والمحتضنة لمسالك البكالوريا المهنية ساهم إلى حد بعيد في الحد من الطلب على مسالك البكالوريا المهنية، بالرغم من وفرة العروض وتنوعها، والتي تم الإعلان عليها وفق خريطة مهنية؛

بالنسبة لأطر التوجيه التربوي:يرون وجود إشكال بخصوص الفلسفة التي بنيت عليها المسارات المهنية وآفاقها، والتي كان من المفروض أن تستوعب عدد من التلاميذ الذين يعيشون تعثرا على مستوى التحصيل الأكاديمي النظري، حيث يفتح لهم المجال لإبراز مهاراتهم وقدراتهم التي تعجز المدرسة بشكلها الحالي على الاعتراف بها وتفجيرها ورعايتها … فإذا بالبكالوريا المهنية تشترط لولوجها مواد مؤهلة مثل الرياضيات والفيزياء والفرنسية ومواد أخرى، وتدريس المواد العلمية والمهنية بالفرنسية، فأعدنا إنتاج تخصصات تكنولوجية (مستوى التقني) تدرس في مراكز التكوين المهني بدل الثانويات التأهيلية، وستبقى فئة عريضة من التلاميذ تنتظر مسارا يستوعب قدراتها الخاصة. وفي نهاية المطاف سيبقى مشكل الهدر المدرسي مطروحا. أما القضايا التقنية المتعلقة بالتواصل والتدابير والمساطر والانسجام بين الجذوع والمسالك المتفرعة عنها وغيرها، فالارتباك الذي تعرفه ناتج عن اختيار التوقيت، وبكون التجربة في بدايتها، وأن الإعداد التقني للمشروع كان ناقصا، وغابت عنه المقاربة النسقية الإستراتجية في هندسته وموقعته داخل نظام التربية والتكوين، وتم تغييب لذوي الاختصاص، مما نتج عنه اختلاف في مساطر التوجيه بين المسالك المهنية والمسالك الدولية؛

بالنسبة لمديري الثانويات التأهيلية : صعوبة القيام بتعديل الخريطة التربوية في الدخول المدرسي بعدما تم إقرارها سابقا، وإيجاد الموارد البشرية التي يمكن أن تدرس المواد العلمية بالفرنسية، بالإضافة لإشكالية تدبير الحياة المدرسية للتلاميذ المسجلين بهذه الجذوع والمسالك المهنية المتعلقة أساسا ب: تدبير استعمالات الزمن، تدبير العطل المدرسية، أسلوب التقويم الموزع بين مؤسستين مهنية ومدرسية، تدبير الوثائق المدرسية، تدبير برنام مسار،بالإضافة لاتخاذ قرارات التوجيه وإعادة التوجيه داخل لجنة جهوية، ومن خارج الآليات المؤسساتية الموضوعة لهذا الغرض ضمن مقتضيات النظام الأساسي الخاص بمؤسسات التربية والتعليم العمومي؛

بالنسبة لمدير معاهد ومراكز التكوين المهني: إشكالية التأكد من الجانبيات المهنية للتلاميذ الراغبين في هذه المسالك في غياب اعتماد حصيلة المقابلة الفردية أو الروائز البسيكوتقنية أو اختبارات مخصصة لهذه الغاية خاصة في بداية تنزيل المشروع ، مما سيلصق بالمشروع بعض التمثلات الخاطئة والتصورات النمطية السلبية التي يصعب التخلص منها كما كان الشأن بالنسبة للتكوين المهني والذي اعتبر ولفترة طويلة ملجأ للتلاميذ الفاشلين والمتعثرين، وظلت هذه التصورات تلاحقه وتحد من نجاعته والإقبال عليه .

في مستلزمات وشروط نجاح إرساء المسالك المهنية والمسالك الدولية في إطار الإصلاح المأمول:

إن التدبير الشامل والمندمج لمشروع المسالك المهنية و المسالك الدولية، ولمختلف المسارات والممرات المزمع إحداثها بداخل منظومة التربية والتكوين في المراحل المقبلة، توخيا لإحداث الترابط بين هياكل المنظومة ومستوياتها وأنماطها في نسق متماسك ودائم التفاعل والتلاؤم مع المحيط الاجتماعي العام، يقتضي تقييم وتحيين الهيكلة البيداغوجية المعمول بها حاليا في التعليم الثانوي التأهيلي وفق مقاربة نسقية التقائية، و ضبط المسارات وتدقيق آفاقها وتحديد المفاهيم المتعلقة بالتعليم العام والتعليم التكنولوجي والتعليم المهني والتكوين المهني والمسالك الدولية وتدقيق المصطلحات المتعلقة بالجذع والشعبة والمسلك والجسر والممر… ، والتعامل مع أنماط التعليم هذه على قدم وساق بعيدا عن التفاضلية أو التراتبية، رفعا لكل لبس أو سوء فهم يمكن أن يتبادر لذهن الفاعلين التربويين والاجتماعيين والمهنيين… وتتطلب في الآن ذاته، العمل على إحداث التعبئة المجتمعية حول هذه المشاريع ، لإعطائها العمق والهوية التربوية التي تفتقدها، والتداول في مختلف الاختيارات والمصادقة على مختلف القرارات من داخل الآليات المؤسساتية المحددة في النظام الأساسي لمؤسسات التربية والتعليم العمومي عوض الاشتغال من خارجها عبر لجن جهوية، والعمل بشكل مستعجل على توحيد وتبسيط مساطر التوجيه وإعادة التوجيه، وإخضاع كل المذكرات والمقررات ذات العلاقة بالموضوع لمراجعة شاملة تحقيقا لانسجام وتكامل المساطر ورفعا لكل تناقض أو تضارب في التدابير والإجراءات والمواقيت والمتدخلين الشيء الذي أصبح يهدد مبدأ تكافؤ الفرص… علما أن فتح مسارات جديدة في التعليم الثانوي التأهيلي لن يكون مجديا وناجعا، ضمن أعراف وفلسفة التوجيه التربوي في غياب إعادة هيكلة منظومة التعليم سواء في مراحلها الابتدائية أو الإعدادية التي تفضي لهذه الخيارات أو تلك المتعلقة بالآفاق الجامعية والمهنية التي تضمنها هذه المسارات؛ حيث يجب أن تظل مسألة فتح الاختيارات أمام المتعلمين تخضع لمقاربة تصاعدية نمائية، تأتي كتتويج لعمل ميداني ومجهود بيداغوجي وتربوي ونفسي مواكب وداعم للتلميذ في مساره الدراسي. مع الحرص على توفير ضمانات وشروط النجاح، بكل ما يلزم من تنسيق وتعاون بين الثانوية التأهيلية ومؤسسات التكوين المهني، وكل ما يتطلبه الأمر من توفير لترسانة قانونية لتأطير التداريب الميدانية داخل المقاولات ووحدات الإنتاج المحتضنة، وتوفير مراكز الإيواء والموارد البشرية المؤهلة لتدريس المواد العلمية بالفرنسية والإنجليزية والإسبانية ، والإسراع في إخراج الأدوات والآليات الكفيلة بإنجاح عمليات التجسير والممرات بين التربية والتكوين والحياة العملية (مراجعة المساطر ذات الصلة بالإشهاد، إخراج الإطار الوطني للإشهاد لتيسير سبل التعليم مدى الحياة، إيجاد آلية للتصديق على حصيلة الكفايات المهنية والمكتسبات التعليمية، إيجاد بنية مؤسساتية للمصادقة على المكتسبات والتجارب الميدانية، إخراج جداول المطابقة لتمكين خريجي التكوين المهني من متابعة دراستهم بمسالك البكالوريا المهنية، معادلة الشواهد والدبلومات المهنية، نشر وتعميم مضامين الإتفاقيات المبرمة في إطار المسالك المهنية والمسالك الدولية، بناء روائز ملائمة…) وتعزيز مساعي التشارك والتعاون بين مختلف المتدخلين في التوجيه التربوي لمساعدة التلميذ على تدبير مساراته الدراسية والمهنية والحياتية بكل ما يقتضيه الأمر من تبصر وحكمة ضمن رؤية للتوجيه تمتد مدى الحياة.

قدمت هذه المداخلة يوم السبت 19 دجنبر 2015 بمقر أكاديمية جهة دكالة عبدة

مداخلة ذ، عبد العزيز سنـهجــي / باحث تربوي، في اليوم الدراسي المنظم بأكاديمية دكالة عبده حول الرؤية الإستراتيجية والتدابير ذات الأولوية