تقديم
لقد كان تعلق الدول الرائدة في مجال التوجيه التربوي ب”المشروع” جليا منذ أكثر من عقدين من الزمن. فتم الحديث عن مشروع التوجيه المهني والمشروع المدرسي…ثم تنوعت المشاريع وتعددت مجالاتها، فمن الحديث عن مشروع المؤسسة ومشروع المقاولة، والمشروع الصحي والعلاجي إلى المشروع التنموي والمشروع الاجتماعي…
وبالنسبة للنظام التربوي والتكويني عامة، ونظام التوجيه التربوي خاصة، يتم الحديث، في إطار اللقاءات التربوية بين أطر التوجيه التربوي والتلاميذ، عن المشروع الشخصي للتلميذ كمنطلق حوار وتأطير وإرشاد وتبصير… لتحفيز التلاميذ واستشفاف الآفاق المستقبلية.
§ فما هو المشروع الشخصي للتلميذ؟
§ وما هي العوامل المحددة لبلورة التلميذ لمشروعه الشخصي؟
§ وإلى أي حد يمكن أن تتحقق المشاريع الشخصية للتلاميذ؟
إن الموضوع الحالي، يتناول بالتحليل، قدر الإمكان، هذه الأسئلة، في إطار إشكالية متعددة الأوجه، تتجلى في مساطر النجاح والانتقاء، ومدى إدماج الفرد/ المواطن ضمن آليات الإنتاج وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية … كل حسب استعداداته وميولاته وقدراته الفكرية والجسمية.

1-
محاولة تعريف
لا يخفى على أحد أنه منذ ارتياد الطفل المدرسة الابتدائية، أو قبل ذلك، حسب الأوساط الاجتماعية والثقافية، يشرع بإيعاز من أبويه أو من تلقاء ذاته، من وضع عدة تصورات لمستقبله الذي لا يزال بعيدا جدا، من خلال إفصاحه عن نوايا وتمنيات تختلف باختلاف المجالات والثقافات السائدة، وتتشعب حسب طبيعتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية: فمنها ما هو مدرسي، ومنها ما هو مهني، ومنها ما هو أسري، ومنها ما هو اجتماعي، ومنها ما هو اقتصادي… واضعا نصب أعينه حياة أفضل وعيشا أرغد، دون التفكير في خبايا المستقبل وما تخفيه الأيام.
إن هذه الأحلام والنوايا والمتمنيات، تصاحب التلاميذ خلال مساراتهم الدراسية ويعتبرونها أهدافا يرغبون في تحقيقها مستقبلا، دون تحديد البعد الزمني والإمكانات الضرورية والوسائل الكفيلة بتحقيقها. حيث لا يتم احتكاك التلميذ بهذه الوضعية واقعيا، إلا عندما ينضج نسبيا، ويواجه إشكالية الاختيار واتخاذ القرار.
ونظرا للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، والنمو المتسارع في جميع الميادين، فإن الأهداف التي يرسمها التلاميذ لأنفسهم، وفق المعلومات التي يتوفرون عليها، تبقى غير واضحة وغير محددة المعالم، نظرا لغياب معرفة دقيقة بالذات والمؤهلات الشخصية والوسائل الضرورية والبعد الزمني والمحيط الاجتماعي والاقتصادي.
فهل يضع التلميذ استراتيجية واضحة لتحقيق أهدافه؟ وهل يحدد محطات وأهدافا وسيطة وبدائل وسبلا مختلفة لتحقيق الأهداف النهائية؟ وهل يعي التلميذ جيدا الوسائل والمؤهلات المتوفرة والتي يجب التوفر عليها والإمكانات المتاحة والمساطر المدرسية والإدارية المطبقة قبل تحقيق الأهداف التي يضعها لنفسه؟
إن توافر هذه العناصر مجتمعة، تمكن من تسييج وتأطير النوايا المستقبلية للتلاميذ إلى حد ما، ولكن، هل تمكن من تقديم تعريف دقيق وشامل لمشروع التلميذ؟ إن الجواب على هذا السؤال، لا يمكن أن يتم إيجابا بشكل مطلق. فالمشروع الشخصي للتلميذ، إذن، وبشكل شمولي وأوسع، يبقى محدودا في مجموعة نوايا مستقبلية رهينة بالظروف الشخصية والمدرسية والاجتماعية والاقتصادية.
وإذا حاولنا تقريب القارئ الكريم من تعريف أكثر واقعية، ولو في إطار نظري، فالمشروع الشخصي للتلميذ مجموعة أهداف متجانسة ودقيقة ومحددة المعالم، من حيث نوعها وطبيعتها وبعدها الزمني ومدى معرفة التلميذ لذاته ومحيطه ومدى توفره على الأدوات والوسائل والمؤهلات والقدرات الفكرية والجسمية المطلوبة لتحقيق هذه الأهداف.
ومع هذا يبقى تعريف المشروع للتلميذ محفوفا ببعض الغموض في ظل عدة عوامل ترتبط بالفرد والأسرة والمدرسة ومجالات الإنتاج والنظام التربوي والتكويني والواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

2-
محددات بلورة التلميذ لمشروعه الشخصي
إن وصف المشروع الشخصي للتلميذ غير كاف، بل يجب تفسيره وتحديد مراحله وسيرورة بلورته: فالمشروع الشخصي للتلميذ ينبثق انطلاقا من تمثلاته لصورة الذات وتمثلاته الذهنية للتخصصات المدرسية والمهنية.
إن نوعية الصورة الذاتية التي يكونها التلميذ عن نفسه ضمن سيرورة النظام التربوي والتكويني والتوجيه المدرسي والمهني، تلعب دورا أساسيا في بناء مشروعه الشخصي، حيث إن الاضطرابات النفسية تعد أحد العوامل المحبطة لعدم انخراط التلاميذ في بلورة مشاريعهم الشخصية. وعلى العكس من ذلك، فالاستقرار النفسي يعد العامل المحفز على البذل والعطاء والإنتاج والنظرة المستقبلية المتفائلة، ويزرع الثقة في النفس ويثبت قوة العزيمة على تجاوز الصعوبات والعراقيل لتحقيق التلاميذ للأهداف التي يرسمونها لأنفسهم، خصوصا أولائك الذين يتمتعون بظروف اجتماعية واقتصادية محفزة.
يضاف إلى الحالة النفسية للتلميذ، عدة محددات، منها ما هو أسري عاطفي ومنها ما اجتماعي وثقافي أو اقتصادي. كما أن الوضعية التربوية والمدرسية تؤثر إيجابا أو سلبا حسب موقع التلميذ من حيث المردودية المدرسية والتحصيل الدراسي والقدرة على استيعاب البرامج والمجزوءات المقررة وتجاوز عتبات التوجيه ومباريات الانتقاء والتغلب على مختلف الصعوبات والعراقيل خلال المسارات الدراسية والتكوينية.
ويمكن الجزم إلى حد ما، أن الوضعية الاجتماعية والاقتصادية تعد محددا حاسما في بلورة التلميذ لمشروعه الشخصي وتحقيقه، حيث إنه كلما كانت الوضعية المالية والاقتصادية والاجتماعية جيدة، كلما ازداد طموح التلميذ وتعززت حوافزه وتيسرت له سبل تحقيق مستقبل أفضل.

3-
مشروع التلميذ وإكراهات الواقع المدرسي والمهني
من حق كل فرد/تلميذ أو طالب، أن يبني مشروعه المدرسي والمهني، ويرى مستقبله بعيون وردية. ومن الواجب مساعدته على تحقيق الأهداف التي يرسمها لنفسه، وذلك بتيسير الظروف، وإزالة العراقيل، وتدليل الصعوبات التي تعترضه، حتى يندمج ضمن آليات الإنتاج، حسب ميولاته وقدراته الفكرية والجسمية.
فباعتبار كل فرد/تلميذ أو طالب إنسانا، وباعتبار كل إنسان طاقة بشرية خلاقة، يجب الاعتناء بها وإعدادها تربويا ونفسيا ومهنيا، والعمل على استثمارها وفق المهنة أو العمل أو التخصص المناسب لها، وفسح لها مجال الابتكار والإبداع، وتحقيق الذات، ومن ثمة، المساهمة، كمواطن صالح، في التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية، فإنه من الواجب إدماج كل فرد/ تلميذ أو طالب ضمن مجالات الإنتاج وفق مشروعه الشخصي الذي قام ببلورته وسهر عليه طوال سنوات الدراسة والتكوين.

إن الطفل منذ أن تطأ قدماه المدرسة، يجد نفسه أمام حواجز وعراقيل عدة خلال مساره الدراسي، فمن الامتحانات وتقييم تحصيله الدراسي بشتى الوسائل والطرق، التي يمكن أن تؤدي به إلى الرسوب والتكرار ومغادرة الأسلاك التعليمية، إلى نظام الحصيص الذي يوقف مسيرة نسبة لا يستهان بها من التلاميذ، خصوصا عند عتبات التوجيه، إلى المباريات الانتقائية التي تقصي أغلبية المتبارين وتضع حدا لطموحاتهم، لتتبخر مشاريعهم المدرسية والمهنية، وبالتالي تكبح جماحهم، وتزرع فيهم اليأس والإحباء وتصدهم عن العمل المنتج والإبداع المشروع.

وبصفة عامة فعمليات الانتقاء الشديد وتطبيق نظام الحصيص، سواء عند عتبات التوجيه المدرسي، أو الالتحاق بالتكوين المهني في مختلف مستوياته، أو ولوج مؤسسات تكوين الأطر، من مراكز ومدارس ومعاهد عليا، تشكل عقبة أمام عدد كبير من التلاميذ والطلبة، وتثني عزائمهم، وتقصي الغالبية العظمى منهم، من مجالات الإنتاج المنظم، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، التي تتطلب موارد بشرية مؤهلة، ليعتنقوا مهنا عشوائية لا تصب في دواليب رقي المجتمع وازدهاره.

خاتمة
إن إشاعة ثقافة المشروع، بصفة عامة، وثقافة المشروع الشخصي للتلميذ أو للطالب على الخصوص، تستوجب رفع كل الحواجز وتدليل كل الصعوبات أمام التلاميذ والطلبة حتى يتمكن الجميع من تحقيق الأهداف التي يرسمونها لأنفسهم.
فاعتماد نظام الحصيص، في المجال المدرسي والمهني والتكويني، إجراء إقصائي لا يسير في اتجاه إشاعة ثقافة المشروع الشخصي، ولا يشجع التلاميذ والطلاب على بلورة مشاريعهم الشخصية، لتبقى ممارسة أي مهنة رهينة بالصدف، وبعيدة عن كل تخصص محكم التكوين.
فكم من تلميذ أقصي عن الأسلاك الدراسية جراء نظام الحصيص، وأتيحت له فرصة إرجاعه لمتابعة الدراسة، فأظهر عن قدرات فكرية هائلة، وحقق أهدافا كان قد حرم منها.
وكم من تلميذ أو طالب أقصاه نظام الانتقاء في مباراة معينة، فبقي عرضة للضياع والانحراف وكله طاقات مبدعة وخلاقة.
إن كل إنسان طاقة منتجة، وموردا بشريا، له استعداداته الشخصية وقدراته الفكرية والجسمية الخاصة، يمكن استثمارها في المجال الذي يناسبه ويليق به، لضمان إنتاج جيد، وتحقيق تقدم وازدهار المجتمع.

مكناس في 23/12/2007
نهاري امبارك مفتش في التوجيه التربوي