تعد نظرية الذكاءات المتعددة إحدى أكبر وأكثر الأفكار الرائجة في منظومة التعليم بوجه عام؛ فقبل حوالي 35 سنة قام “هوارد غاردنر” بتقديم نظرية “الذكاءات المتعددة”، التي كانت بمثابة نهضة فكرية وثورية تتحدى كافة المعتقدات والمفاهيم الخاطئة السائدة نحو تعليم الأطفال واكتشاف قدراتهم.

فبالطبع لكل طفل أو شخص قدرات تجعله قادرًا على إنجاز بعض المهام بذكاء وتميز، فهل ساعدت نظرية الذكاءات المتعددة على تحقيق الهدف؟ وهل تم تطبيق النظرية بمنظورها الصحيح في العملية التعليمية؟.. هذا ما يستعرضه مقالنا هذا..

اعتراض غاردنر على محدودية مفهوم “نظرية الذكاءات المتعددة”
في تلك الآونة، تمركز اهتمام الكثير من علماء النفس حول الاهتمام بتطوير “الذكاء العام” والذي يقوم على تحديد قدرة الأشخاص على خلق حلول للمشكلات وتطبيق نظريات التبرير المنطقي من خلال مجموعة كبيرة من الضوابط. وبفضل انتشار “اختبارات الذكاء” المعروفة باسم “IQ Test” -والتي ظهرت وتطورت في أوائل القرن العشرين لقياس وتقييم قدرة الطفل على “إصدار الأحكام ومساعدته على الفهم والتبرير المنطقي”- ساهمت نظرية “الذكاء العام” في تفسير الأسباب الجوهرية التي تتسبب في تفوق الطلاب في الحياة الدراسية ببعض المواد. ومن هنا اكتشف “غاردنر” أن المفهوم الشائع عن تطبيق نظرية “الذكاءات المتعددة” هو مفهوم محدود للغاية لا يحقق مسعاه.

فمعظم الكتابات العلمية والأكاديمية التي تناولت نظرية الذكاءات المتعددة اقتصرت على اعتماد “الذكاء المنطقي واللغوي” والمزج بينهما؛ فيذكر غاردنر أنه كان يتمتع بموهبة كبيرة في العزف على البيانو في نشأته، وكانت هي الحالة المسيطرة على قواه الفكرية الخاصة، ولذلك تساءل: “لماذا لم يتم تضمين مراعاة المواهب والفنون التي لا يتضمنها نطاق الذكاء المنطقي واللغوي في معظم الكتابات والأبحاث العلمية حول نظرية الذكاءات المتعددة؟”. ويبرهن على ذلك فيذكر: “كنت أشعر بالدهشة عندما كنت طالباً بالدراسات العليا لعلم النفس في الستينيات، ولم تكن تُدَرَس أي نوع من الفنون في الحياة الدراسية أو بالمناهج”. وهذا يعد مؤشر قوى على إهمال شتى أنواع الفنون وعدم تصنيفها كمحتوى فعال ضمن العلوم المنطقية أو اللغوية.

عود الثقاب الذي أشعل نيران ثورة غاردنر على المفهوم الخاطئ لـ “نظرية الذكاءات المتعددة”
نعم فقد كان إهمال الفنون في الكتابات والأبحاث العلمية والمناهج الدراسية بمثابة بذور الاعتراض والثورة التي شنها غاردنر حول محدودية نظرية الذكاءات المتعددة وخاصة في الذكاء اللغوي والمنطقي. فيوضح غاردنر أن الفكرة المتعارف عليها من أن نظرية الذكاءات الفردية متجانسة هي فكرة مغلوطة ومتعارضة بشكل كلي مع إدراكه.

تطبيق نظرية الذكاءات المتعددة في الوقت الحالي تسيء إلى قناعة صاحب النظرية
للأسف لم تلق نظرية الذكاءات المتعددة من يفهمها ويحاول تطويرها بالمفهوم الذي طالما سعى غاردنر لتطويعه وتوسيعه، فأصبح من الصعب جدًا محو ذلك النموذج القديم والمفهوم الخاطئ السائد والذي بلا شك اعتمده الكثير من المعلمين.

ففي الآونة الأخيرة، نلاحظ اتساع نظرية الذكاءات المتعددة على نطاق واسع ولاقت شعبية كبيرة مقارنةً بالأعوام الماضية، ولكن للأسف يتم تطبيقها بشكل مريب كتلك الصورة النمطية التي حاول غاردنر محوها وإزاحتها.

كارثة الخلط بين نظرية الذكاءات المتعددة وأنماط التعلم!..
سردت نظرية غاردنر بالبداية سبعة أنواع من الذكاءات تعمل معًا وأضاف لاحقًا ذكاءً ثامنًا طبيعيًّا، ويذكر أنه قد يكون هناك عدد قليل آخر من الذكاءات. وأصبحت النظرية ذات شعبية كبيرة لدى معلمي التعليم الأساسي في جميع أنحاء العالم بحثًا عن طرق للوصول إلى الطلاب الذين لم يستجيبوا للنهج التقليدي، ولكن مع مرور الوقت، أصبحت “الذكاءات المتعددة” مرادفًا لمفهوم “أنماط التعلم”. وهذا يُعد خطأ مفهوميًا كارثيًا.

فالمزج أو الخلط بين أنماط التعلم ونظرية الذكاءات يعد خطأ غير محمود يعمل على الحد من نظرية غاردنر لتشكيل نظام واحد ذو عدة أوجه، وبالتالي يتحقق تطبيق وجه واحد من النظرية وهو “الذكاء العام”، وبناءً عليه يتم تصنيف الطلاب إلى أصناف التعلم السمعي أو البصري مع استحالة المزج بينهما. وبهذا التطبيق نكون قد تعثرنا في نفس ذلك الفخ القديم الذي يخلط مفاهيم نظرية الذكاءات ببعضها البعض.

فعلى سبيل المثال: لنفترض أن شخص ما يتسم بنمط تعلم “اندفاعي”. هل يعني ذلك أن الشخص “متهور أو اندفاعي” في كل شيء؟ كيف لنا أن نعرف هذا؟ ماذا يعني هذا فيما يتعلق بالتدريس – هل يجب علينا أن نعلم “بطريقة اندفاعية”، أم يجب أن نعوض عن طريق “التدريس بشكل انعكاسي”؟ ما هو أسلوب التعلم “الصحيح” أو المرئي أو اللمسي؟.

فيذكر غاردنر خلال أحد اللقاءات الصحفية مثالًا على اختلاف قدرات الأشخاص وكيف يمكن توظيفها، فيقول: “على سبيل المثال، إذا كان هناك شخص يتمتع بذكاء جسماني مذهل والتحق بمدرسة ما تسلط اهتمامها على الذكاء المنطقي التحليلي، فبالطبع سيكون له تقدير سلبي. فإذا كان الشخص يتمتع بقدرة ما في مجال من مجالات الذكاء، فإنه من القسوة أن يحرم من ممارسة هذا النوع وتطويره.

ولذلك، فإن الأمر الذي أعنيه من خلال النظرية هو أنه يمكنك استخدام نقاط قوة الأشخاص كمحاولة للدخول وفهم المناهج التقليدية، فلا يوجد أي شيء يمنعك من استخدام ذكائك الجسدي لفهم الأشياء المتعلقة بالفيزياء دون الحصول على المعلومة من محاضرة أو كتاب على سبيل المثال”.

فيتعلم الأطفال بأنماط مختلفة من وجهة نظر التربويين، ولكن عند الرجوع للأبحاث والكتابات في هذا المجال نجد واقع مغاير تمامًا؛ حيث أظهرت العديد من الدراسات والنتائج حول معالجة الطلاب للاحتفاظ بالمعلومات ومعالجتها أنه لا يوجد نمط بيولوجي سائد، وبناءً عليه فإن محاولات الكثير من المعلمين حول مطابقة المواد التعليمية للطلاب مع أنماط التعلم المختلفة الخاصة بهم، فنجد أنه لا توجد فائدة مرجوة من تلك المطابقة، وبالرغم من ذلك لا زالت الفكرة مترسخة في أنظمة التعليم.

ترحيب منقطع النظير بنظرية الذكاءات المتعددة
أشار عدد كبير من الإحصائيات إلى أن نسبة تتجاوز 90% من المعلمين لديهم وجهة نظر في أن تعلم الأطفال بصورة أفضل عند تلقي المعلومات التي تتناسب حتمًا مع أنماط التعلم المناسبة والمفضلة لهم، ولكن يعد هذا المعتقد أمر سائد وواسع الانتشار في كثير من دول العالم.

فيشير أستاذ علم الأعصاب بجامعة بريستول “بول جونز” إلى الأمر قائلًا: “إن ترابط الذكاءات في الدماغ يجعل هذا الافتراض غير منطقي وصحيح؛ فعند النظر إلى المجلدات والكتب العلمية السابقة بالإضافة إلى الدراسات والاختبارات المدروسة، فاتضح فشلها جميعًا في دعم هذا النهج المتبع في منظومة التعليم القائم على مراعاة اختلاف أنماط التعلم”.

ومن خلال إحدى الدراسات التي أجريت عام 2015، تمركزت حول تحديد قيمة التعلم من خلال اتباع عدة طرائق، باعتبار تلك المناهج أو الطرائق إحدى أكبر وأهم الأساليب التي تعين على الفهم وتعزيز ذاكرة الفرد؛ حيث كشفت الدراسة فاعلية استخدام طرائق متعددة للتعلم من خلال وصول الطلاب إلى توجهات مفاهيمية بشكل أعمق لفهم الدرس من خلال استخدام المعلمون للرسوم البيانية والخرائط الذهنية مع أسلوب الإلقاء وشرح الدروس.

كما كشفت دراسة أخرى امتدت لمدة 3 عقود من البحث تأييد نفس النتيجة السابقة للفهم المتعمق؛ فخلصت الدراسة إلى أن الطلاب يحتفظون بالكثير من المعلومات على فترات زمنية طويلة عندما تحتوي المقررات الدراسية والكتب على الرسوم البيانية والمخططات التي تساهم بشكل كبير على فهم النص. وبناءً عليه فإنه عندما يستخدم المعلمون أكثر من وسيلة تعليمية لشرح وإلقاء الدرس، فإن قدرتهم على استيعاب الدرس وتذكره تكون أكثر تعمقًا، وعلى النقيض نجد أن الإفراط في استخدام نمط واحد للتعلم لا يحقق نتيجة فعالة في العملية التعليمية.

إذًا، ما هي الضوابط التي يجب اتباعها المعلمون أو تجنبها للتحسين من مسيرة التعلم باتباع نظرية الذكاءات المتعددة؟
يستطرد غاردنر خلال أحد النقاشات بأن: “لا يجب أن يكون تطبيق نظرية الذكاءات المتعددة هدفًا تربويًا في حد ذاته، وبدلًا من ذلك هناك بعض الأمور التي يجب تطبيقها أو تجنبها من أجل تحقيق نظرية الذكاءات المتعددة بمفهومها الصحيح في الفصول الدراسية” يُذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

أولًا: يجب على المعلمين اتباع الآتي:

منح الطلاب عدة مصادر متنوعة للحصول على المعلومة والتعرف عليها بنفسه: فعندما يوفر المعلم معلومات جاهزة للطلاب لن تكون الدروس فعالة جاذبة للطالب.
استخدام الأسلوب والمنهجية المميزة التي تتماشى مع قدرات واحتياجات الطلاب: يجب أن يتمتع المعلم بأسلوب خاص متفرد يستخدمه لتقديم التعليمات الخاصة بالدروس، ويجب التفكر في احتياجات الطلاب الفردية وميولهم وقدراتهم، وتجنب اتباع نمط تعليمي واحد عام للجميع.
دمج المهارات والفنون بالدروس والمزج بينهما: تعتمد غالبية المدارس على التمركز حول الذكاء اللغوي والمنطقي للطلاب، ولكن إذا ساعدنا الطلاب على صقل مواهبهم ونموهم من خلال السماح لهم بالتعبير الحر عن أنفسهم بعدة طرق، فسيكون هذا الأمر فعالًا ورائعًا جدًا.
ثانيًا: يجب على المعلمين تجنب:

تصنيف الطلاب وتحديدهم بنوع معين من الذكاءات: فكشفت الدراسات إلى أن تطبيق المدارس لهذا النهج يحرم الكثير من الطلاب من فرص أفضل للتعلم على أعلى مستوى وحرمانهم من اكتساب الكثير من المعلومات الهامة.
الخلط بين مفهوم الذكاءات المتعددة وأنماط التعلم: هناك معتقد سائد بين عدد كبير من المعلمين وهو أن أنماط التعلم هي الطريقة المثلى لتطبيق نظرية الذكاءات المتعددة في العديد من الفصول الدراسية؛ فيعلق غاردنر على الأمر قائلًا: “إن هذه الفكرة غير متماسكة، فنقوم بالقراءة ومعالجة الأمور بأعيننا ولكن تلك القراءة تتطلب عدة أنواع مختلفة من الذكاءات، ولا يهم أي نوع من تلك الحواس التي نستخدمها للحصول على المعلومات، ولكن الأهم هو كيفية معالجة الدماغ لهذا النوع من المعلومات؟. وبناءً عليه يقترح غاردنر إسقاط مفهوم “أنماط” الذي تسبب في تضارب وفهم المعلومات بطريقة خاطئة، إضافةً إلى عدم فاعليته بالنسبة للطلبة والمعلمين.

المصدر :أراجييك